يحل علينا الشهر الكريم، شهر رمضان المبارك، ضيفاً جميلاً طيباً مباركاً، شهر فضله وميزه الخالق جلت قدرته عن جميع شهور العام، فهو الشهر الذي أنزل الله فيه كتابه الحكيم، وجعل في أيامه الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وخصه بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. ولست هنا في وضع الواعظ الديني فذلك له رجالاته من الراسخين في العلم، وإنما لتذكير البعض منا بتهذيب النفوس، والتحلي بخصائل وتصرفات وممارسات تنسجم مع الأدب والخلق القويم بعيداً عما يجري ويتم بحجة الصيام، وباسم الشهر الفضيل. فمن أبسط دروس الحكمة من رمضان، الصبر على الجوع والعطش والامتناع عن الشهوات، وتأديب النفس وتعويدها على الاحتمال. ولكن ومن واقع التجارب تجد الكثيرين يتحولون إلى شرر من نار، تنفلت أعصابهم لأتفه الأسباب، ويثورون على الآخرين لأبسط الأمور، لأنهم صيام، وكأنما الآخرون ليسوا كذلك. عند الإشارات والتقاطعات المرورية تسمع كلمات وعبارات لا تليق بإنسان صائم، وترى الوجوه شاحبة والعيون زائغة مرهقة، ويكون الجنون في ذروته في الشوارع مع اقتراب ساعة الإفطار. مع أن إدارات المرور ومحطات الوقود تحرص على تقديم التمور والماء مجاناً للذين يقترب موعد أذان المغرب وهم لا يزالون في الطريق. وهذه عينة من البشر ممن وضعوا في مصالح ودوائر، من أجل مساعدة الناس فإذا بهم يعطلون تلك المصالح لمراجعيهم، باسم الصيام. في أبلغ إساءة للشهر الكريم وتصويره على أنه شهر للنوم والكسل. على الرغم من أن الدوائر الحكومية وحتى بعض الخاصة تقلص ساعات العمل خلال الشهر الكريم، تخفيفاً على الموظفين والعاملين من أجل تكثيف جهودهم وتركيزها خلال تلك الساعات لخدمة المراجعين. وتساهم الكثير من المحطات الفضائية -بصورة مباشرة أو غير مباشرة -في هذا المسلك العصبي لتلك الفئات من الموظفين، بعد أن جعلت من هذا الشهر الكريم «سوبر ستار» الشهور، بحشد كل الأعمال التي أنتجتها للعرض خلال الشهر. وذات مرة ذكر مسؤول إحدى هذه الفضائيات عدد الساعات من البرامج والمسلسلات التي أنتجتها أو تعاقدت على عرضها محطته، لو أن المشاهد فرغ لها ساعات نهاره وليله لم تكف لمشاهدتها. وبعيداً عن روح التراحم الذي يحض عليه الصيام، نرى شهية بعض التجار وموزعي السلع تنفتح كثيراً لممارسة أبشع استغلال للمستهلك، وهم يبالغون في أسعار تلك السلع، والأعذار والحجج جاهزة في وجه الجهود التي تقودها وزارة الاقتصاد. ودائماً ما يضعون مسؤولية تلك الأسباب على رأس المورد. وتابعنا قبل أيام انسحاب بعض منافذ التوزيع من تعهداتها الخاصة بتقديم أسعار خاصة بالسلة الرمضانية. وعلى الرغم من هذه الجهود فإن ما يتوافر من فليسات ودريهمات من هذه السلة -على افتراض أنه يتوفر أصلاً- فإنه يتبدد على سلع أخرى ضرورية ما زال موردوها يصرون على ما يطلبون لها من أسعار. وأهلاً رمضان، ومبارك عليكم الشهر، ووفقنا الله لصيامه وقيامه وتقبل منكم طاعاته.