في الزمان القديم، كانت الجدران دفاتر مفتوحة في الأرض الواسعة، وكان المراهقون يجدون وسيلتهم للتعبير عن مشاعرهم وعواطفهم المكبوتة بحكم انغلاق المجتمع، وقلة أو ندرة وسائل الاتصال.. وكانت أغلب العبارات تعبر عن مشاعر حب جياشة، لا تجد متنفساً لها غير الجدران الصامتة والتي يستنطقها الشباب المراهق بأقلامهم البدائية «الفحم» أو الطباشير المدرسية إن وجدت، وهي معظمها مسروقة من الفصول المدرسية. اليوم ومع التطور التقني الرهيب، الذي أنطق الهواء الطلق، وأسمع من به صمم، ومع وجود الإنترنت، بشرائحه المتنوعة والهواتف النقالة، التي قربت البعيد وأخرجت الساكن وحركت الثابت، نجد بعض المراهقين والصغار يصرون على اعتماد الجدران كيافطات عريضة يسودون الأبيض، ويلوثون النظيف، ويدنسون المحرم.. ولا نجد دراسة علمية تخرج لنا بنتائج عن سبب هذه الانحرافات والنوازع المريبة.. فالجدران لا تزال وسيلة لاستعراض النوازع الدفينة، وللتفريغ عن أحاسيس لا تخرج عن المكبوت من عبارات الحب والعشق، وبعضها شتائم وسباب وقذف.. ظاهرة تحتاج إلى عناية ودراية، بمعناها ومغزاها، وما بطن من الأمور، وكون الجامعات والمعاهد العلمية تملأ البلاد طولاً وعرضاً، وفيها من المتخصصين كان لابد من الاستعانة بذوي الاختصاص، والاستفادة من قدراتهم العلمية للبحث في ظاهرة أصبحت مهمة لفهم ما يدور في الأذهان، وما يعتلج في النفوس من شوائب وخرائب. التصرفات البشرية لا تأتي من فراغ، والذي نتصوره أنه مجرد عبث صبياني، يحمل من المعاني الثقافية والنفسية ما يحمل، وهذا في حد ذاته يحتاج إلى فحص وتمحيص لأنه جزء من سلوكيات بشرية خارجة عن المألوف، وكل ما خرج عن المألوف هو طريق إلى انحرافات أشد فتكاً وضراوة.. نحن كل ما نفعله هو الإعلان عن وجود ظاهرة دون أن نكلف أنفسنا في البحث عن جذورها وأسبابها ودواعيها، لذلك فإن الفقاعات الصغيرة تتحول مع الزمن إلى أمواج هائلة قد تغرق سفناً كبيرة. البحث في الكتابة على الجدران عمل من أعمال العلم والذهن المتحرك والمتابع لما يجري في المجتمع من تغيرات، وما يتسبب في مشكلات قد نعتقد أنها بسيطة، لكنها في باطنها تحمل معاني عميقة لا ينبغي أن نمر عليها مرور الكرام.. المسألة ليست مجرد لهو الهدف منه الخربشة، وإنما هو هو فعل وجداني وانحرافات سلوكية تستدعي الفهم والوعي والبحث والدرس.. ولا أتصور أن الإصرار على مثل هذه التصرفات، رغم تعدد وسائل الاتصال والكتابة والقراءة مجرد حالة كارثية، وتصرفات عديمة المعنى. نحن اليوم في عصر التقنية الدقيقة نحتاج إلى باحثينا ودارسينا أن ينكبوا على مثل هذه الظواهر ليخرجوا لنا بنتائج علمية قائمة على النظريات التطبيقية والتحليلات العلمية التي تغنينا عن التأويل والتفسير الهلامي والخرافي.. ظاهرة تحتاج بحق إلى التفاتة واعية وإلى فرق متخصصة في شأن الإنسان وسلوكياته وعوالمه الخفية التي لا يستطيع الغوص في مجاهلها إلا المتخصصون.