لم يكن الشاعر اليمني عبدالله البردوني يحجب عماه بنظارة شأن الكفيفين، مظهراً بذلك استخفافه بالعمى، فهو لا يختفي وراء زجاج لا يبصر به، بل يمنع رؤية مآقي عينيه مطفأتين. لكن قارئ شعر البردوني سيرى شدة عمل الثنائية الأزلية (نور/ ظلام) في شعره وحضورها في قصائده بقوة لافتة. كل تخلف ظلمة يرمز لها بالديجور والعتمة، مشبهاً قيام الجمهورية بطلوع الفجر وإشراقة النور، ولكن ليس كل ضياء نوراً، ففي الكون زيف وبهرجة تتساوى أنوارهما مع العتمات. وقد حضرني استبداله النظر لدى الكفيف بسمع القلب، مستعيداً لمناسبة رحيله العاشرة، قوله (في قصيدة الرصيف ج): كما يرى بالسمع قلب الكفيف، فقد زاوج الحواس سمعاً وبصراً، وأسندها للكفيف الذي صار قلبه عوضاً عن عينيه وسيلة البصر، فأوكل للعاطفة مهمة الرؤية، ليكون ما يختاره منبثقاً من قلبه لا من العينين اللتين شأن الحواس تكذب. وربما تنخدع - كما في ظاهرة السراب الذي يتراءى ماء - مثلاً، أو قياس برودة السائل بيدين غمستا بماء حار، وأشد ما تظهر ثنائية النور والظلام في قصيدته (في حضرة العيد) من ديوان ذي عنوان شديد الدلالة على الثنائية نفسها هو (رواغ المصابيح)، فكأن ضياءها يراوغ المبصر ويخادعه، في استهلال نص بالعنوان نفسه إذ يقول (القناديل يا دجى منك أدجى) وفي نهايته: راوغتْ أعينُ المصابيح خوفا أو رجاءً وهل رأت مَن يُرجّى؟ وكأن اختياره لعنوان القصيدة عنواناً للديوان تلخيصاً لرؤيته للمبصر الأعمى وللمبصرين العميان، كي لا تظل فضيلة الإنسان على الإنسان بالبصر الذي لا يرى به كثير من المبصرين. يمكن لنص كـ (في حضرة العيد) أن يستدعي قصيدة المتنبي الأشهر: عيد بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟ بما مضى أم لأمر فيك تجديدُ؟ ولكن البردوني يخاطب العيد بما يقال عنه: يقولون جئت فماذا جرى وماذا تجلى وماذا اعترى؟ ويوسع البردوني الفراغ من البهجة الحقيقية ليشمل مفردات كثيرة: البرق يفر من الرعد قبل المطر، والنجم حائر لا يدري ما طوى، والإضاءات لا تهتدي، والقناديل داجية، والشروق لا جديد فيه، ولكن أكثر التمثيلات للخواء قوة قوله مخاطبا العيد: (إذا لم تشاهد ظلام الضياء زريّا../ فأيكما المزدرى؟) فقد أضاف الظلام للضياء وسلب منه الميزة. فماذا سيظل من سبيل سوى القلب للرؤية بالمعنى المتسع المتجاوز فعل النظر كحيوية أو آلية بيولوجية؟ لقد كان البردوني رائياً فريداً سخر من هزل الحياة بهزل ذكي، ومن خداع ضوضائها وفراغ صخبها وظلام ضيائها بعرض مظالمها، والبحث عن عدل إنساني مفقود، واقتراب من الأرض وما عليها ومَن عليها من تعساء بالفقر، وفقدان الحقوق في مكان أبصره قلبه واسعاً يتخطى الحدود ليلامس هموم الإنسان عامة. وهذا سر تجدد شعره بوعاء التجديد، وحداثة أفكاره بحداثة الرؤية.