لا تزال أزمة نشر الكتاب تطل برأسها جهاراً ودون تردد في وطننا العربي، وعلى مرأى من الناشر والمؤسسة والناقد والقارئ والموزع والمحرر الثقافي، لا أحد يجرؤ على قطع رأسها، ولا أحد يبادر في سحبها خارج جحرها إلى العلن، ليكشف تفاصيلها وهيئتها وأسباب تضخمها، حتى باتت كالمرض المزمن الميؤوس من شفائه. نشر الكتاب لا يعني إنتاج مجموعة من الأوراق المسوّدة داخل غلافين ملونين، فالعملية تبدأ من الكاتب، وصدقه مع نفسه، وتقويمه لتجربته، مقارنة بالمُنجَز العام والنوعي، مروراً بجهة النشر وتقويمها لهذا الكتاب، والقيمة الإبداعية التي يضيفها للتراكم، وصولا إلى الموزع، وإخلاصه في إيصال الجهد إلى القارئ، والجهات المعنية. وهنا، لا يجب استخدام معايير متفاوتة للحكم، كأن تكون معايير الإصدار الأول مختلفة عن معايير الإصدار العاشر، أو معايير المحلي واختلافها عن معايير العربي أو العالمي، أو معايير الكاتب الشاب واختلافه عن الكاتب (الشايب). إن تجربة الكتابة لا تفرق بين شاب وكبير، فالشاب قد يتفوق على الكبير، والإصدار الأول قد يتفوق على، أو يضاهي الإصدار العاشر، ولهذا السبب، فإن توحيد المعايير ضرورة ملحة عند الشروع في تنفيذ مشروع نشر أو طباعة، وهذه الرأفة والليونة و(الدلع) في التعامل مع إصدارات معينة، يسيء للكاتب أولا، وللقارئ ثانياً، وجهة الطبع أولا وأخيراً. وهذا (الدلع) يمارسه بعض المحررين الثقافيين، أو النقاد الاحتفاليين، بطريقة مكشوفة وواضحة، متناسين إصدارات حقيقية تحفر لتأسيس تجربة متميزة. الإبداع ليس له وطن أو جنسية، والناشر الحقيقي هو من يتتبّع الإبداع الحقيقي فينشره بفخر واعتزاز، والناشر الحقيقي هو من ينتمي للمبدع الحقيقي وليس العكس، ولهذا، فإنني أندهش من معايير النشر لدى بعض الجهات المنتشرة في وطننا العربي، وهي معايير تكرّس المحلية والشوفينية، وتغلق الفضاءات الإبداعية في وجه أبنائها قبل أن تغلقه في وجوه المبدعين الآخرين. نشر الكتاب ليس عملية إجرائية، لإحداث نوع من التراكم الكمي، الذي يشار إليه في آخر العام ضمن سلسلة الإنجازات، نشر الكتاب احتفال بالكاتب والفكرة والجهد والإضافة، إنه ميلاد جديد يعد بالتجدّد، فلماذا لا يزال البعض يمارس الوأد في عصرنا، إذ يموت الكتاب فور ولادته بساعات أو أيام! فلا يمنح شهادة ميلاد، ولا يعلن عنه أمام الملأ، ولا تتداول الصحف أخبار قدومه، فلماذا تم نشره أصلا، ولماذا هذه الولادة العسيرة؟ نشر الكتاب بداية وليس نهاية، ينتهي عمل الكاتب ليبدأ عمل جهات أخرى معنيّة، فلماذا تعتبر جهة النشر أن عملها انتهى بعد خروج الكتاب من المطبعة؟ وأسئلة كثيرة يقابلها البعض بالضحك، متبوعة بسؤال: ماذا يريدوننا أن نعمل، ألا يكفي أننا طبعنا لهم كتبهم !! akhattib@yahoo.com