أثارني موقف شهدته مؤخرا في ماليزيا، حيث جلست بقرب طاولتي عائلة خليجية «وليس برفقتهم بشكارة» لتناول وجبة العشاء، وبما اننا في ماليزيا كنت متأكدة بانهم سيطلبون الوجبة ذاتها «ناسي أيام» اي الارز مع الدجاج. وجاء طلبهم وصارت الأم تتقمص جميع شخصيات الكرتون المحببة لصغارها في محاولات يملؤها الاصرار والمثابرة لتحفيزهم على الأكل، وعندما يئست صارت تقارنهم ببعض لتثير تنافسهم فتقول «حمود ياكل مثل عبود» ولم تذكر سعود وخلود وميود! أما الأب فلقد أصبح منهمكا في تفاصيل الدجاج حتى نسي جميع الاشهر والايام. وتشعب خيالي لتصور اسرة خليجية بلا مربية وأب يساعد زوجته ويترفق بأبنائه فيطعمهم قبل أن يأكل وإن تضوع جوعا، وأم تهدي كلماتها المنتقاة برفق وعناية، ثم هؤلاء الذين نعتبرهم نصف الحاضر وكل المستقبل كيف سيكون أمرهم عندما تختل موازين العالم اقتصاديا ويجبر المرء على احترام قطعة الخبز بدلا من النظر اليها بأزلية يفهم حتميتها حتى المعتوه. وليس من العدالة في شيء ان ننشئ جيلا تركض وراءه المربيات حتى يأكل في صغره وتجره أو تدفع بكراسيه المتحركة الممرضات لعجزه متى بلغ وسمن وتداعت مقومات شبابه. نسينا الايام حتى تلك الخالية من «العيش والدياي» ولكني أذكر يد أمي وهي تقطع الخبز «السن» وترش عليه الدهن «الخنين والشكر» وكان هذا هو العشاء ويكون الغداء ربما دجاجة يحصل كل فرد على قطعة منها فينزوي لأكلها باستمتاع وتلذذ، وكما في عالم الحيوان، كنت أجلس بقرب اختي الصغيرة لبطء أكلها وسرعان ما تنفد طاقتها وتشبع فأنقض على حصتها وعندما تتجول نظرات أمي لاكتشاف ما يدور أهم بأخذ الصينية الى المطبخ وغسل الصحون. لأرفع عيني حتى لا تشك في تصرفي الى ان تطمئن ويزول شكها، وإن بدا وزن الصغيرة يأخذ في النزول التدريجي. تلك الايام لا تعرف الجمعيات، بل تعرف دكاكين تبيع العيش والطحين بـ«اليونية» أو باليلة وكانت علاقة تاريخية نادرة ومتميزة تربطنا بهؤلاء الباعة الذين أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع. وجاء البترول وتبعته كثرة الجمعيات التي اعتبر غلاء سلعها الفاضح في شهر التوبة تصرفاً غير وطني يجبرنا على التبضع باستراتيجيه تحد من البدانة وامراض القلب المتفشية «حصرا» بين المواطنين. وتتضارب المصالح فمصلحة ربة البيت تقع في تركيزها بانشاء جيل تتنوع الأطعمة المطروحة امامه ليعكس ذلك مستواه الاجتماعي وإن اختار الابناء الوجبات الانتحارية لسرعة جاهزيتها، ومصلحة الجمعيات التي تتخذ من ايرادات الاسهم مبدأ «خذ من مخباه وعايده» فخطط الجمعيات تعتمد على الانتهازية واستغلال موسم النهم والغريزة والتبذير بنصب كمائن ومصايد يقع فيها الاثرياء والغافلون وأصحاب النوايا الحسنة. ولكي لا ننسى أيام مبادئنا الرئيسية وشؤونها المنحشرة في طفولتنا وسماتنا الشخصية تقلقني مقولة فريدريك نيتشه «قد يتمكن المرء من العيش دون أن يتذكر كالحيوان، ولكن من المستحيل عليه أن يعيش دون أن ينسى». bilkhair@hotmail.com