عندما تلبس الحرية بنطلوناً وتقاد إلى المحاكمة، ويشد على حزام النظرة الإنسانية بحيث تضيق.. وتضيق حتى تتسع حدقة الرقابة وتصبح حرية الشخص مصفدة، ومكبدة خسائر الذات إلى درجة الإسفاف، وتصبح الحرية نفسها مشؤومة، مكلومة، مهضومة، مقضومة، وبلا معنى، ويصير الإنسان مجرد أداة تحركها الأيديولوجيا، ولا يحرك هو فيها ساكناً.. المبادئ والقيم والعقائد والتقاليد بنيت وشيدت من أجل خدمة الإنسان ورعاية شؤونه وخدمة فنونه، وتحقيق الحد الأدنى من احتياجاته كإنسان، يفكر ويتدبر ويتبصر في معطيات ما حوله، ولكن عندما تصبح هذه المعطيات الفكرية وما أنتجه العقل البشري مجرد فك مفترس يشم رائحة الحرية كرائحة الدم، ويتبعها ويتتبعها فيقتنصها ويقتص منها ويقضي عليها لتصبح هباءً منثوراً، فإن البشرية لن تهنأ بخير ولن تعبر طريق الحياة بسلام ووئام والتئام. قد نختلف مع الأشخاص في أسلوب حياتهم، وفي طريقة معيشتهم، ومناحي تفكيرهم، وكيف يأكلون ويلبسون، ولكن هذا لا يعني أن نسلط أنفسنا كمحكمين ومنجدين ومنقذين ومخلصين للبشرية من سلوكيات لا نجلها نحن.. ومن المؤسف أن يحاكم صحفي أو صحفية بناء على ما يلبس أو يأكل، فإن رداء الحرية يكون أكثر ضيقاً وأكثر سحقاً لمعاني التعايش السلمي بين أبناء البشر.. قضية الصحفية لبنى حسين المعروضة الآن للمحاكمة تفتح مشروعاً جديداً لأصحاب الأيديولوجيا الذين وكأنهم حلوا مشاكل الأوطان جلها بدءاً من الفقر والجهل والمرض، ولم يبق أمامهم سوى ملابس صحفية، تعكر المزاج، وتسيء إلى الأهواء الشخصية.. لا نريد أن ندافع عن شخص أو نحاسب جهة، وإنما دفاعاً عن المبادئ الإنسانية السامية، فإننا نتصور أن الحرية طالما لم تتعد على حريات الآخرين فهي حرية مكفولة، وحرية واجبة ليستطيع الإنسان أن يعيش بلا مركبات نقص أو حالات عجز إرادي أو اسوداد في النظر إلى الحياة.. أما عن البنطلون، فإذا كان الخوف منه كونه ملبساً، يظهر مفاتن المرأة، فإن كثيراً من الأثواب العربية في كثير من الأقطار العربية تبرز من جسد المرأة أكثر مما تخفي، فلماذا الخوف إذاً، ولماذا المبالغة، ولماذا الاحتجاج على شيء لا يمكن أن يكون سبباً في الخلل والزلل.. وهل ضاقت النظرة بأصحاب الأيديولوجيا حتى صارت أضيق من ثقب إبرة، بينما القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لا تزال تئن تحت وطأة الاحتباس الحراري لهذه الأيديولوجيا ولا تزال تعيش موتاً سريرياً لا نجاة منه ولا تزال تعيش المعضلات الكبرى في حلها وعلاجها، ولا يزال أصحاب الأيديولوجيا يغردون خارج سرب المواطنين في أقطارهم، حيث العري الحقيقي يكمن في أولئك النساء اللاتي لا يجدن قوت عيالهن، ويهيمن حافيات عاريات في الصحارى الواسعة بلا مأوى.. فمن يحقق لهؤلاء مصيرهن الهانئ، يستر عوراتهن ويحميهن من الجوع والعطش ولوعة الحرمان من أبسط معاني العيش الكريم؟