يلجأ الكثير من الناس الى تفسير تطور حياتهم وتحليل ما يحدث لهم الى (الصدفة) وهم بذلك يبتعدون عن تحليل الاحداث وتفسيرها او ارجاعها الى السيرورة او المنطق او حتى اللاشعور. لكن اكثر المدارس الفلسفية والروحية لا تؤمن بوجود صدفة في هذا الكون، وتنظر الى كل ما يحدث باعتباره سلسلة متواصلة من الاسباب والنتائج، وكل حدث او نتيجة نصل اليها انما هي من تدبير العقل او اللاوعي. ومثالا اذا كنت يوما تمشي الى مكان ثم دخلت الى مكان آخر وصادفت شخصا لم تره منذ سنوات عليك ان تعرف ان ما حدث لم يكن صدفة، وان قوانين الجاذبية الكونية وتخاطر الافكار هي التي قادتك الى هذا الشخص في هذا الوقت. وعليك هنا تحليل الاسباب الحقيقية التي قادتك الى هذا الحدث وعليك ايضا لماذا قادتك رجلاك لمثل هذا اللقاء وعندها ستدرك تدريجيا كيف تقرأ الاحداث من حولك. الاديان حاربت بدورها مفهوم (الصدفة) والبعض اعتبرها إلحادا علنيا لانها تناقض نظرية (تدبير الخالق). لكن معظم هؤلاء كانوا يردون ويشككون في النظريات العلمية التي ترجع فكرة نشوء الكون الى الصدفة المحضة. ولم يذهب احد الى نفي مفهوم الصدفة من الأحداث اليومية البسيطة كسقوط كأس الماء من يدك او توقف سيارتك عن العمل وانت على موعد مهم. وهي امور لو التفتنا لها لأدركنا الكثير من مفاتيح فن قراءة ما حولنا. يعرّف بعض الفلاسفة حالة (التنوير) التي يصل اليها العارفون وبعض المتعمقين روحيا بأنها الانتباه الكامل لمجريات ما يحدث حولنا والقدرة على تفسيرها وربطها في نسيج واحد كلي وكوني متصل حيث يستطيع هذا المتنور عقليا ان يقرأ معنى سقوط ذبابة في كأس الحليب وان يربط هذا الحدث البسيط بسبب ما، او يقرأ ذلك كعلامة لشيء سيحدث في المستقبل له او من حوله. وهكذا يظل طوال لحظات اليقظة ممسكا بخيط الوعي بالاشياء والاحداث والكلمات التي هي مترابطة ولا يمكن فصلها عن بعضها. فن قراءة العلامات والإشارات قديم جدا، لكن طبيعة النظم المعرفية التي تسير ثقافة المجتمعات الحديثة استبعدت هذا الفن والكثير من الفنون الاخرى، خصوصا تلك التي تعتمد على الابعاد الروحية واللاشعورية الى درجة ان البعض لا يصدق ما يثبته العلم وهو بذلك يلغي حواسه ورؤاه ومهاراته في الاستشعار متخليا عن الكثير من الملكات الموجودة اصلا لدى كل انسان. وفي هذه الحالة تكون (الصدفة) هي الخيار الاول الاعتباطي الذي يلجأ له هؤلاء عندما لا يجدون تفسيرا لما يطرأ. الحياة رائعة ومليئة بالمفاجآت.. والعارف هو من يرى المشهد كاملا لا ان يحكم من زوايا النظر الضيقة. akhozam@yahoo.com