في ذاك المساء الرصاصي، المغتسل بمطر المدينة التي لا أحب، والريح القادمة، مظلات المطر السوداء، كأجنحة خفافيش الليل، والمعاطف السادرة، احتكاك ألبسة الصوف، والجلود الباهتة، الألوان البنية القاتمة، الطرق اليتيمة الساكنة، روائح سكّير الحي الفاني، خشخشة آخر الأوراق الخريفية الذابلة. لندن.. تابوت للغرباء، مستودع للأصدقاء، وجه للغيبوبة، وروائح الكنائس العتيقة الباردة الجنتلمان الإنجليزي المحنط، والشوارع المعاكسة، سيارات الأجرة التي تشبه المصفحات الروسية، نهر التايمز الأرمل العجوز، وأنفة بحارة كانت الشمس لا تغيب عن سواحلهم يوماً، والبيوت الضيقة الصامتة. كنا.. وكان مساء لندن الكئيب، وجروحات الذاكرة، الأصدقاء الذين غيبتهم المسافات، لفظتهم المطارات، وآخر الحروب الخاسرة. تقودك خطى الليل، وبرودة المطر، وخواء الأيام نحو قهوة «أبو حيدر» إحدى مناطق الدفء في عباءة المدينة المتصابية النائمة. ينبري لك صوت جهوري، كصدى ممثل وحيد على دكة مسرح يوناني، يفرد جناحيه بأريحية عربية: لندن.. نحن، لا تهرم هذه المدينة إلا بغيابنا، نحن، وأنتم الحضور، نحن ذاكرتها الجديدة، نحن مواقدها، حين لا يبقى من النار إلا الرماد، ومن الليل إلا السواد والسهاد! في قهوة «أبو حيدر» هناك.. رؤوس الدكاترة، رؤوس الشعراء، والفنانين، رؤوس المغتربين والمتغربين، رؤوس المهاجرات، رؤوس الأراجيل! والكل يغني ليلاه.. الكل يغني غربة الأقدام، وأيام الرحيل، وحين تكون ليلى هي الوطن، تكون الآه خنجراً، منسلاً من الوريد إلى الوريد. في رحاب «كوفة زيد الظاهر» تتداعى أحلام فجرية عن نهار بغداد، عن فرسان كانوا مجللين بروائح الغار والانتصارات، عن الانكسارات، عن النهر العربي، عن أغاني عبد الحليم، عن الفلاح الفصيح، عن عامل النسيج، عن الإذاعات، عن قاهرة المعز، عن بيروت الفرح ودمشق الصهيل العربي، عن كل الشعارات، عن بنات الجيران اللائي سرقن أول قطاف العمر، وأول رعاف الحبر، وعن كل من مر على خريطة الجسد من عابرات! وعند انتصاف احتراق الأرجيلة، وأول قرقرات النشوة، يمتد نواح كربلائي، يسكن قرار صدر «أبو حيدر» مصاحباً القافلة التي خرجت ذات يوم من سوق الشيوخ إلى بغداد، الكويت، القاهرة، واليوم مربطها هذا الركن الصغير، في الشارع الكبير، في المدينة الضبابية! وحين تغبّش مآقي العيون بثقيل الدمع، يتذكر «أبو حيدر» السنوات التي تنقضي، والصغار الذين يكبرون بعيداً عن رائحة الجدات، بعيداً عن دجلة والفرات، بعيداً عن نخيلات الجد التي زرعها يوماً، فرحاً بقدوم الحفيدات! وتحت جنح المساء الحزين، نخرج.. والرأس حبلى بالكثير، تاركين الأراجيل تشتعل، المدينة تشتعل، الذاكرة تشتعل، و»أبو حيدر» وحده، يفرد جناحيه بأريحية عربية ، كبطل أسطوري قديم، نسيه الزمان في الملاحم اليونانية!