سمعت مرة أبلغ السودانيين الراحل الطيب صالح يتحدث عن أجمل شعرائهم الراحل صلاح أحمد إبراهيم. قال الطيب: إن صلاح ينتسب بفخر، على عادة أغلب أبناء وطنه، إلى شقيقته. يقول «أنا أخو فاطمة». وفاطمة، هي سيدة مقاتلة بالكلمة والموقف، ضد الظلم والتمييز، لها صولات في ميادين المعارضة، وجولات في مقارعة السجان، حتى غدت بصوتها وثقافتها وصلابتها، في حجم حركة شعبية بقضها وقضيضها. كم تستحق هذه السيدة أن ينتسب إليها رجل. هذا ما وصلنا من السودان المشرق قبل أن يدخل في عصر العتمة. في هذا العصر يصل من الخرطوم خبر آخر: لبنى أحمد الحسين، صحفية شابة، تتلقى 40 جلدة، مع نساء غيرها، لأنها لبست بنطالا داخل مطعم، وهو ما يعد مخالفاً لقواعد الحشمة. لا ينقص السودان خبرا مثل هذا لتكوين صورة عنه في أذهان من لا يعرفونه. فقد مرت عقود متعاقبة، على نوع من العزلة اكتنفت السودان الآخر: سودان الأدب والشعر والثراء الثقافي. كأن الحراك الثقافي الجاري في الخرطوم، يشبه ذلك الذي يجري في بكين، يبعده نأي جغرافي وتحصره لغة غريبة. ثم يتهم المثقفون السودانيون زملاءهم العرب، بالاستعلاء وممارسة نوع من «الاستشراق» في مقاربة أحوالهم. وهو اتهام يكاد يكون صحيحا في إطلاقه، لولا أنه يأتي في خضم بحر سوداني هائج يكثر فيه الزبد السياسي من دارفور إلى مطعم صغير في نواحي أم درمان. من أفضال الطيب صالح أنه «هاجر إلى الشمال» مبكرا، وهو يحمل معه سودانه الطيّب، الأصيل.. ولولا تلك الهجرة، ومثلها هجرات سودانيين آخرين، لبقيت ثنائية الانعزال والإهمال هي الحاكمة فيما بين السودان والعرب مشرقا ومغربا. ولولا تلك الهجرة، لصدق القول إن حركة الإبداع السودانية قد وقفت عند مدرسة «الغابة والصحراء» وأعلامها الكبار التجاني بشير، ومحمد عبدالحي، والنور عثمان بكر وغيرهم كثير.. لكن السودان العريق والمترامي، لا يمكن حصره في حركة أو مدرسة أدبية واحدة، أيا تكون أصالتها ومهما بلغ أثرها. مشكلة السودانيين هي مشكلة كثيرين من العرب. فليس هناك في الساحة الثقافية العربية أصحاء بالكامل، أو مرضى ميؤوس منهم. مشكلة السودان ليست في الإضافة والإبداع، ولكن في أصوات تطغى على الثقافة والإبداع، فيختصر بلد نفسه في 40 جلدة تلسع جسد فتاة، وكأن تلك الجلدات هي صدى الطعنات التي أودت بحياة مواطنة مصرية في قاعة محكمة ألمانية لأنها ترتدي الحجاب. يبقى السودان أكبر من إجراء، وأعرق من خبر، وأوسع من مساحة انحصر داخل عزلتها. هو ذلك الحلم الذي ينمو أشجارا تحت الماء، كما يقول محمد عبدالحي في ديوانه «العودة إلى سنار»: «سأعود اليوم يا سنَّار، حيث الحلم ينمو تحت ماء الليل أشجاراً / تعرّى في خريفي وشتائي/ ثم تهتزّ بنار الأرض، ترفَضُّ لهيباً أخضر الرّيش/ لكي تنضج في ليل دمائي/ ثمراً أحمر في صيفي، مرايا جسدٍ أحلامه تصعد في/ الصّمتِ نجوماً في سمائي ... فافتحوا، حرَّاسَ سنّارَ، افتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة افتحوا للعائد الليلة أبوابَ المدينة افتحوا الليلة أبواب المدينة.». adelk58@hotmail.com