(وحيدا.. ملفوفا بالزنبق ..مسجى فوق الكلمات ..مدركا أن المستقبل هو ماضيه القادم) هكذا أستذكر محمود درويش لمناسبة غيابه، مستعيدا تلك الكلمات من نصّه بالغ الدلالة (في حضرة الغياب) الذي كان أشبه بكشف حساب مع الحياة، وتنبؤ بما سيجري: اختفاؤه في التاسع من آب بعيدا ووحيدا.. ولا شيء إلا الكلمات في ليل أبيض. في ذلك النص الإشكالي المتردد بين الشعر الموزون والمنثور، والنص الكتابي النثري، رصد درويش أيام غيابه القادمة، وبالحسية التي عرفها قراء شعره يشم درويش روائح نعيه وتشييعه، فيعذر مشيعيه ويدعوهم للانصراف لعشاء احتفالي في ذكراه، غير متنازل عن السخرية التي طالما تمنى لو كانت مفتاح قراءته حتى في أوج اهتمامه بواقعة حياته الكبرى - احتلال وطنه وتشرده وتشبثه بالذاكرة - لتغذية تلك المقاومة التي سكنت شعره بتلاوين خاصة وهبته صوته المتفرد وسط الجماعة، وأخرجته من خانق السياسة بمعناها اليومي والجدلي إلى الفكرة بفضائها الذي قال عنه مرة : (ما أوسع الفكرة / ما أضيق الدولة). حلم عصيّ هو الذي يحمل طاقة الخيال ويشحذها حتى في واقعات حياتية محرجة للذاكرة كالمرض الذي يناوره درويش ليشتق منه رؤى البياض الممتد من الأغطية في غرفة الإنعاش، إلى الذاكرة وهي تستسلم لغيبوبة الجسد. الحب أيضاً كان من المشغّلات الفاعلة في قصائده حيث يقرنه بزمن لابث لبرهة لابد أن يقتنصها الشاعر كما يفعل مصور فائق الإحساس، وربما كان ذلك أحد أسرار جاذبية الوزن والإيقاع عامة في شعره، فهو يرهن الكلمة بزمنية موسيقية تلبي لدرويش هذه الرغبة بالبقاء ورفض النسيان الذي أوقف حياته من أجل مقاومته، فكتب ذاكرة للنسيان في حصار بيروت وفي حضرة الغياب، وتفوق في رصد جزئيات المكان ليعيد تكوينه من الذاكرة ، في شعره كما في نثره، ولينتقل بالزمن من راهنه إلى قادمه ليجعل دورته عكسية باتجاه المستقبل عبر الماضي، ويختار الغياب والحضور ثنائيةً دالةً على وضعه الإنساني: وطن غائب في العيان وحاضر في الذاكرة، ووجود آدمي غائب ككيان بسبب المرض والموت القادم ،وإصرار على الحضور من بعده كما تلخصه كلماته: (مهما نأيت ستدنو/ ومهما قُتلتَ ستحيا/ فلا تظنن أنك ميت هناك / وأنك حي هنا/ فلا شيء يثبت هذا وذاك..) ولمغالبة لقاء الموت يختار مفردات كالذهاب مثلا، وكأنه ماضٍ إلى حفل وداع يلقي فيه خطبته الأخيرة على وعد القدوم في هيئة أخرى، لا نشك أن ذكرى غيابه الأولى هي إحدى اقتراحاتها، وفعل قراءته من قارئ يغالب موته هي إحدى لحظاته الممكنة كما توقع هو نفسه، وبين ذلك كله ينمو الزنبق فوق قبر من الكلمات يشيدها لجسده قبل رحيله، مخلَّدا كما يشاء أن يكون: ملفوفا بالزنبق، وحيدا، ولكن قريب يدنو مهما نأت به المسافة