مضى 22 عاماً على الرحيل المر للفنان ناجي العلي الذي لم يعرف الاستقرار، ولم يعرف غير المسير الطويل، فحياته جزء من رحيل فلسطيني متواصل، وسرمدي، بدأه بعد 10 سنوات من مولده عام 1938م، في قرية الشجرة بالجليل الشمالي، في ذاك اليوم ولد الطفل حنظلة الشقي، حافياً، بثياب ممزقة، مرقعة، يمثل الشقاء والبؤس والغضب الساكن في النفس، ويرمز إلى التيه الفلسطيني. في ذاك اليوم ولد حنظلة في ذاكرة ناجي العلي، ورحل معه بعمره الذي لا يكبر، مخزناً كلمات الأسى، وصور الفجيعة، رحل ناجي العلي متأبطاً حنظلة الذي في الرأس عام 48 المشهود، و«كلاهما» في العاشرة، واستقرا في مخيم عين الحلوة في الجنوب اللبناني، ناجي كبر، شهد المآسي، والفجائع العربية، والمعارك الخاسرة، والشعارات الحارقة، وتقويض أحلام الشباب العربي، حنظلة لم يكبر، ظل ساكناً روح الفنان، وذاكرته المتجددة، بقي بعمره القديم، وحجمه يوم الترحيل! عام 69 أخرج ناجي طفله إلى النور لأول مرة في صحيفة السياسة الكويتية، يومها وجد الفنان ناجي العلي نفسه، ورضي بعشرة ذلك الصبي المشاغب، والبريء، والصامت، رامياً شهادة دبلوم الميكانيكا، لأنها لا تعوزه، ولن تعوزه، مثلما لم تستوعبه أكاديمية الفنون اللبنانية، ليتنقل بالعمل بين عدة صحف منها: الطليعة، السفير، القبس. كان يجرجر معه طفله الذي لا يكبر أبداً حنظلة، لقد تشكل وعي ناجي العلي السياسي في بيروت والكويت، وأعطاه العمل في الصحافة العربية مع أساتذة صهرتهم التجارب السياسية والإعلامية أفقاً كبيراً، يطل من خلاله على القضايا الوطنية والقومية، دون أن ينسى أن القضية الفلسطينية هي المحور، وهي الأساس، وأنها صنو الحرية. قالت عنه جريدة «نيويورك تايمز» إذا أردت أن تعرف رأي العرب في أميركا، فانظر إلى رسوم ناجي العلي، ووصفه أحد الكتاب الأميركيين بـ«أنه يرسم بعظام بشرية مبرية» واختارته جريدة «آساهي» اليابانية كواحد من أفضل عشرة رسامين في العالم. هذه المكانة، وهذا الصيت، جعلا من ناجي العلي فناناً محارباً، وصادقاً، كشأن الفنانين الصادقين مع أنفسهم، ومع الآخرين، وكشأن الشعراء والكتاب الجادين والملتزمين، والمؤمنين بالثوابت الوطنية والقومية التي لا تغيرها المصالح، ولا تبدلها الأحداث. ظل أصدقاء ناجي العلي يزيدون، مثلما ظل أعداؤه كذلك يتكاثرون، خاصة بعد أن أظهرهم بأشكالهم المعراة، وأحجامهم البالونية المنتفخة، يفوحون فساداً سياسياً، ومالياً وثقافياً، وأخلاقياً، هؤلاء ترصدوه أكثر من مرة، وتتبعوه في أكثر من مكان، وحاربوا رزقه الخفيف والحلال. لم يفلح الأصدقاء في حمايته، مثلما أفلح أعداؤه في اصطياده ظهيرة يوم 22 يوليو 1987م في شارع «إيفز» بلندن، حيث مكاتب صحيفة القبس الدولية، يومها أطلقت عليه رصاصات حاقدة، وفيها الكثير من الغل والضرر، كانت مصوبة على وجهه، ليخفوا ملامحه، تماماً كوجه طفله حنظلة الذي لم يره أحد غيره، لم يقو الجسد النحيل على مزيد من المقاومة، فانحاز بعد أيام إلى التراب، حيث دفن في صقيع لندن، بعيداً عن مخيم عين الحلوة، وصية دفنه، وبعيداً عن قريته الشجرة، وبعيداً عن فلسطين التي طافت معه كل هذه الأرجاء، وكل هذه العواصم، وكل سنين الرحيل المر. اليوم.. نتذكره كرفيق، وشهيد، وشاهد على مآسينا، وفجورنا في الجهل والعداء للنفس، واغتيال النقاء، والكلمات المطهمة بالشرف والحرية والعدل والخير! حنظلة وحده الذي لا يريد أن يكبر، ظل يتيماً.. وحيداً.. يشوح بوجهه عن الناس.. ولا يقبل العزاء!