بينما المظاهرات تجتاح جهات البلاد شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً، كانت أوامر القيادة العليا متوقعة: لتنزل قوات الأمن ومكافحة الشغب إلى الشارع، ولتمنع هؤلاء المتظاهرين من ارتكاب المزيد من الأعمال الإرهابية التي ستقود إلى تخريب البلاد، لكن المتظاهرين كانوا أقوى من رجال الأمن، أو لنقل كانوا أكثر اندفاعا لتنفيذ المهمة التي نزلوا باكرا لتنفيذها: الاحتجاج على النظام وإيصال صوت الأمة بأعلى نبرة ممكنة، كان التصوير ممنوعا وتواجد الصحفيين غير مستحب في كل مناطق الشغب، وفي زحام الشوارع المكتظة بالسيارات والعابرين والمتظاهرين علقت سيارات كثيرة بل مئات السيارات توقفت عن الحركة بسبب ذلك الزحام. سيارة بيجو 206 قديمة، علقت في زحمة المرور كغيرها من السيارات، لكن راكبة هذه السيارة لن تكون بعد الآن كغيرها من العابرين في شوارع المدينة، ترجلت ندا من السيارة وهي ترتدي قبعة بايسبول فوق غطاء الرأس، وقميصا أسود وبنطالا من الجينز وحذاء رياضياً، كانت برفقة رجل يكبرها ليس والدها بالتأكيد، لكنه أستاذ الموسيقى والفلسفة، فقد قررت منذ زمن أن تتعلم الموسيقى واشترت بيانو لهذه المناسبة، إضافة إلى آلة الكمان التي أتقنت العزف عليها، بالرغم من أنها درست الفلسفة والدين بجامعة آزاد الإسلامية، ويصفها أصدقاؤها بأنها كانت شخصية روحانية جدا، لكنها كانت تعشق الموسيقى أيضا. وقفت إلى جانب أستاذها بالقرب من المتظاهرين، وبرغم أنها دفعت حياتها ثمن ذلك القرار بالخروج من السيارة، إلا أنها كما قال الكثيرون لم تكن مشاركة في تظاهرات الشارع يومها، غير أن لقطات فيديو مراسل الـ «بي بي سي» كما قيل كشفت أنها سقطت على الأرض فجأة إثر إصابتها برصاصة في صدرها، وتجمع حولها عدد من الرجال، في محاولة لإنعاشها ووقف نزيفها، وسمع صوت يقول بشكل متحشرج: «لقد أصيبت بعيار ناري.. ليأت أحدكم ويأخذها!» وشاهد العالم لحظة الموت القاسية حين بدأت عينا ندا تميلان، وجسدها يهبط ويفقد قوته، بدأ الدم يسيل من فمها وأنفها، وبعد لحظات شوهد دم كثيف يغطي وجهها وبعد لحظات أسلمت ندا روحها إلى بارئها، وبدون أن تقرر شيئا تحولت إلى جان دارك أخرى، وكأنه هكذا دائما يصنع الشارع أبطاله، أبطال المصادفات وجنون القتل والقمع!! كان معلمها يناديها «ندا.. لا تخافي.. لا تخافي.» وكأنه يستحلفها بأن لا تغادر لأن درس الموسيقى الذي بدأه معها لم ينته بعد، أو كأن آلة البيانو الجديدة بانتظار عزف أناملها، لا تخافي ندا، هكذا كان يصرخ، لكن ندا لم تكن تسمعه، لقد غادرت آخر دروس الموسيقى وآخر مشاهد القمع والقتل التي ملأت شاشات الشرق الأوسط، حتى صار الناس يموتون على الهواء مباشرة، كما قتل ذات يوم في حرب العراق مراسل قناة أبوظبي، ومراسلة «العربية» والطفل الصغير محمد الدرة في واحد من أكثر المشاهد الحية المصورة بشاعة. نحن هنا لا نتهم ولا نلوم، لكننا نتأمل حركة الناس والشارع في لحظات الغليان لنتساءل من يضبط حركة التاريخ في هذه اللحظات، من يعمد الأبطال في لحظة الغليان، من صنع مجد ندا سلطاني المؤمنة بالموسيقى وحقوق الإنسان والحياة؟ هي لم تختر الموت بالتأكيد ولم تطلبه، لكن رصاصة ليست طائشه أبدا اغتالت صرخة الحياة في قلبها كما ستغتال صرخات أخرى في شوارع أخرى اليوم وغدا وطالما بقي هناك قمع وآلات قتل. ayya-222@hotmail.com