أقر مثلي، مثل الكثير غيري، أن الراديو كان صديقاً مخلصاً من جانبه على الأقل للكثيرين منا، وإذا كان ثمة عدم وفاء فمن جانبنا، نحن الذين تغيرنا، وحتى الإذاعة نفسها شاخت بعد أن كبر أولادها، وخاصة «الأزعر» منهم التلفزيون. اليوم.. ما زال بعضنا محافظاً على جانب من هذا الحب، خاصة للإذاعات التقليدية، لأننا شعرنا في لحظة ما أن كل الإذاعات تحولت إلى مشروع راقصات مسنات، يتبعن رجلا ليس من ورائه فائدة، فغاب ذاك المذيع الذي يقدم اسم إذاعته بصوت مجلجل، وهو فرح منتش، وكله وطنية، ويفخر أن تقدم إذاعته البرنامج التالي، أو أغنية لعبدالحليم أو مسلسلاً تاريخياً أو نشرة الأخبار، غدت الإذاعة في لمحة بصر أغاني هابطة، نازلة، وبرنامجا عن المنوعات الغنائية، وبثاً مباشراً لما يطلبه المستمعون الكرام عبر رسائلهم النصية، واتصالاتهم الهاتفية، وبرنامجاً مسائياً عن سباق الأغاني، وترشيحات السادة المستمعين الكرام، وبعده لقاء مباشر وحي من استوديوهات الإذاعة بفنانة الـ«سي.دي» الذهبي، ذات الحنجرة المشروخة، والقوائم المعروفة «رفرف رفاريف» وإذا كانت هناك من نشرة اخبارية، كانت خجولة، ونظيفة، لا قصف في قطاع غزة، ولا تفجير في مرقد في بغداد، لا برامج تحليل، لا لقاءات مهمة في الفكر والثقافة والاقتصاد، لا إنتاج لبرامج ودراما وسهرات إذاعية، لقد تحولت إذاعتنا إلى صندوق بث أغان! اليوم.. تكابد الإذاعات التقليدية، وتشعر من برامجها أن لا أحد يتابعها، وتشعر من صوت مذيعاتها اللائي يشبهن المربيات، أنهن مللن العمل، ومللن رجالهن، وأنهن في ضيق مستمر، حتى المدير يشعر بكآبة دائمة، لا يعرف سببها! في المناسبات الوطنية، يفتشون في مستودعاتهم القديمة عن أغان «مضروبة» وسجلت على عجل، واستعان المطرب بـ«كورس» الإذاعة شبه الجاهز، وبملحن غير ممارس من مدرسي الموسيقى في وزارة التربية والتعليم، وكل الأغنية وكلماتها في «كوبليه» واحد، وإيقاع «مارش» عسكري لا يصلح لمناسبة وطنية عزيزة على قلوبنا، ثم إننا دولة غير محاربة، ولا نسعى للهجوم الذي يريده المطرب غصباً عنا، وعن استراتيجيتنا الدفاعية، وتطلعاتنا الوطنية، بالطبع جل مطربي أغاني هذه المناسبات لم يشتهروا في دنياهم، ومن عرف منهم لم تسعفه الموهبة كثيراً، وبعضهم تخبط في حياته، بحيث لم تكن تفرق معه المناسبة، عيد وطني، أو الوقوف بعرفة، أو ابتهالات رمضان، أو افتتاح مصنع للإسمنت جديد، هي مناسبة، وجاءت في وقتها، وجاءت برزقها!، حتى أن بعض هذه الأشرطة من قدمها، وتكاثر الغبار عليها، ورطوبة المستودعات، تجد المطرب يكح طوال الأغنية، ولا يصدق متى تخلص، ليتخلص من غبرتها، وحساسيتها! وهناك مشكلة عبدالكريم عبدالقادر، عمري ما سمعت له أغنية كاملة في الإذاعة، لأنها طويلة، وغالباً ما يضعونها في الظهر، والناس في عز القيظ، أو راجعه من الشغل، ولا تشوف إلا سراب الطرق، وأبو خالد يريد أن يوّن، ويريد أن ينوح، والأغنية فيها «بجوة» حقيقية، والمعدة لا تتحمل الكثير من التألم، وفي عز القائلة، وأبو خالد مصرّ أن ينهي أغنيته بكيف ما بدأها، تقوم الإذاعة وتقطع عليه الإرسال وهو في منتصفها، والحجة أنها دقائق تفصلنا عن نشرة الأخبار، أو حان موعد أذان صلاة العصر حسب توقيت العاصمة، وعلى الساكنين خارجها مراعاة فروق التوقيت، أو يكفيك إلى هنا يا أبو خالد!