في أغلب المؤسسات والدوائر الحكومية كنت تجد نفسك غريب الوجه واللسان أمام سيل من المراسلات والمخاطبات الغريبة والعجيبة، والتي كانت أشبه ''بالركاته'' يعلكها ويمضغها من يفهم ومن لا يفهم، ويحبك خيوطها من يعلم ومن لا يعلم، المهم بالأمر كان القفز على الحبال في سيرك بهلواني صارم وعارم للثقة بالنفس، سامقاً ماحقاً للذات·· كانت لغة الضاد ترف دهاليز المكاتب الحكومية، تبحث عن مأوى وملاذ، فلا تجد غير هزات الرؤوس الأشبه بالهزات الأرضية بمقياس 9 ريختر، فكانت هذه اللغة اليتيمة تقف متعجبة مستغربة من النكران والنسيان والهجران، وكانت تتوقف تلعق عرق الإحساس بالدونية، وعقد النقص المذهلة، تسأل الذاهب والقادم أين مكانها من الإعراب، فلا تجد من يسمع أو يرى، بل كانت تصفع بمط البوز وجر الأقدام إلى الوراء، والابتسامات الساخرة، الهازئة، كانت هذه اللغة تحوم في عراء الأمكنة، وتسأل أين المعاجم والقواميس الذي كانت تُرص ويتسابق الناس من أجل البحث عن تكملة تكون الأجمل والأشمل لإكمال العبارة·· فلا تجد ولا ترى غير غضون الجباه العابسة، البائسة التي لا تهوى غير لعق رضاب الآخر، وتشتهيه وتتلذذ باجترار ما يقذفه من معان باهتة ساخطة على اللغة الأم·· كانت هذه اللغة تجر خطوات الهزيمة المنكرة، وتنكفي وتنطفئ وتختبئ في بطون الكتب، ولا يقترب منها غير المدنفين، العاشقين، الغارقين في عراء غربتهم، أما الغالبية فهي تجفل وتغفل ولا تلتفت إلا لسماع بعض كليمات ''أجنبية'' ركيكة، لكن أصحابها يصرون على مضغها بلسان أعوج يكاد يخرج من بين الشفتين كأنه رصيف هرم خرب، عبثت به الأهواء والأنواء والأرزاء·· كانت هذه اللغة تعيش زمانها الأخير، وتكاد تُختصر وتختصر العمر، لتنأى بنفسها عن واقع أصبح غير واقعها، وزمان غير زمانها، ومرحلة أحرقت مراحل ما قبلها· كانت هذه اللغة تعيش مرحلة ما بعد الفراغ، متقاعدة خارجة عن الخدمة، أي بمعنى أنها كانت مجرد مفردة ''خردة''· كانت تتضخم همومها في صدرها، وتكظم حزنها في قلبها، وتنام عند قارعة طريق موحش مظلم، معتم سقيم عديم مهزوم، مكظوم مكلوم·· كانت هذه اللغة تمر في مرحلة من أقسى مراحلها، وأتعسها فظاعة وبشاعة·· كانت هذه اللغة تستجدي من يحفظ ودها فلا تجد وتجاهد لتستعيد حيويتها فلا تقدر لأن التيار كان شديداً عتياً، طاحناً وعنيفاً· كانت تنظر إلى الوجوه فلا ترى غير سحنة الغضب، ولا عتب لأن الذين يمرون عليها توارت عن أسماعهم، لغة اسمها العربية وغاصت آذانهم في لغات مجلجلات مزلزلات مهجنات، من عجين وطحين، ''الرطانة'' المبهمة الغامضة·· كانت هذه اللغة تحثو التراب على حروفها، لكيلا يراها كائن ما فيسخر ويسخط ويضحك بهستيريا قائلاً ولى زمانك، يا عجوز خرفة، وأدبر وما أثمر غير الحنظل·· كانت هذه اللغة يراها بعضنا المتطور المتهور كأنها لغة هيروغليفية، أو مسمارية، أو شيء من الهرطقة والزندقة، والسباحة في بحار مغرقة·· كانت هذه اللغة لغة الماضي الميت، والحضارات البائدة، والثقافات الهاربة من فصول التاريخ، المتشردة على تضاريس الجغرافيا·· كانت هذه اللغة مجرد حكاية سالفة، تصفنت بغبار القدم، والأزمنة العتيقة، كانت هذه اللغة مجرد أضغاث أحلام عاش عليها العرب، وما أفلحوا وما كسبوا غير الخسارات الفادحة·· كانت هذه اللغة عادة سيئة تشبث بها الأقدمون ولابد من التحرر من صهدها ورثها وعبثها، والتخلص من إرثها وميراثها، لأنها ما عادت تواكب التطلعات والآمال المعقودة على لغات حيَّة نابضة، فاعلة، تحاكي المستقبل بمفردات تتصالح مع الحياة ومتطلباتها وحاجاتها الأساسية·· كانت هذه اللغة مجرد وهم تعلَّق به العرب، ولمّا وعوا وجدوه حبالاً مهترئة بالية·