الحرية هي الشرط الأول لكل إبداع، ولكن هذا الشرط نادر ندرة الكبريت الأحمر على امتداد العالم العربي الذي لا يوجد فارق بين أقطاره في نسب الحرية المتاحة إلا على سبيل الكم لا الكيف· أذكر أن يوسف إدريس كتب ذات مرة قائلا: ''إن كل الحرية المتاحة على امتداد الأقطار العربية لا تكفي أديبا واحدا''، ولقد توقفت عند كلمات يوسف إدريس طويلا، ومغزى إبداعه الذي يقول لنا إن حرية الإبداع ليست هبة أو عطية من أحد، وإنما هي فضاء إبداعي، ينتزعه الأديب انتزاعا بممارساته الإبداعية التي اتّخذت شكل الكتابة في قصص يوسف إدريس، خصوصا ما كتبه في قصص من مثل ''أكبر الكبائر'' و''طبلية من السماء'' و''بيت من لحم'' و''أكان لابد أن تضيئي النور يا لي لي'' و''اقتلها''، وغيرها من القصص التي ناوشت المحرمات الدينية في أشكالها التقليدية الجامدة، وفي تفسيراتها المتزمتة، وكان ذلك حين وضع يوسف إدريس هذه المعتقدات موضع المساءلة الإبداعية التي تؤكد تسطُّح الفهم الديني الذي يحيل مبادئه إلى أصول جامدة أبعد ما تكون عن سماحة الدين والإقرار بالحرية التي منحها للإنسان خالقه· وقد تواصلت عمليات المقاومة بالكتابة في البعد السياسي الذي استخدم الأمثال والرموز لينطق المسكوت عنه من الخطاب المقموع، وكانت قصته ''العملية الكبرى'' من أوضح الأمثلة، فالدكتور في القصة هو رمز كنائي عن شخصية عبد الناصر الذي قادته ثقته المطلقة في نفسه، وعدم جرأة أي صوت حوله على تنبيهه إلى مخاطر ما هو ماضٍ فيه، إلى موت المريضة المسكينة التي لم ينقذها الدكتور صاحب المعجزات، بل أجرى لها عملية فاشلة أدت إلى موتها، على مرأى ومسمع من كل الذين لم يجرؤ واحد منهم على النطق أو تحذير الطبيب العظيم· وقد كتب يوسف إدريس أكثر من قصة قصيرة كانت نوعا من المقاومة بالكتابة وانتزاعا للحرية من واقع لا يسمح بها، ولم يتوقف هذا الفعل على المجالات الدينية والسياسية، فقد جاوزها يوسف إدريس إلى غيرها من جوانب النقد الاجتماعي، ورواياته القصيرة مثل ''النداهة'' أو ''السيدة فيينا''، ورواياته الطويلة كـ ''الحرام'' و''العيب''، كلها أمثلة على كيفية إنطاق المسكوت عنه من الكلام غير المباح ليظهر نفسه للعيان· وفي هذا الجانب تكمن عظمة يوسف إدريس وأقرانه من الذين انتزعوا حرياتهم الإبداعية انتزاعا، ولم ينتظروا أن يمنَّ عليهم أحد بها، فالكتابة هي فعل الحرية التي تؤكد وجودها بالقضاء على نقائضها، وذلك تحريرا لنفسها وللقارئ الذي تتسرب إليه عدوى الحرية، فيغدو نصيرا لها، وداعية حرا من دعاتها·