صباح بلا ورق.. هكذا دربت نفسي خلال أسبوع انقضى، كل علاقتي بالعالم من خلال شاشة لامعة، وأخبار صامتة، تشعر أن منشأها عمل دون جهد يذكر ميدانياً، ولم تتعرق رقبته، وأن تواصله واتصالاته كانت عبر هواتف، ومن خلال غرف مكاتب مبردة، وأنه لم يشهد عراكاً في الشارع، إلا إذا أجبرته الإشارة الحمراء عند تقاطع أحد الطرقات على التوقف، وألقى نظرة من نافذة سيارته على عجالة. صباح أسبوع بأكمله خال من الورق ومن القلم، ومما يسطرون أو يتعبون، كان من خلال جهاز يشعرك انه مثل ابنك أو يكاد يكون، ولد بفرحة أمه في مستشفى خاص، لا ضرورة فيه للقماط، أو تنطيع الحلق بالتمر، ولا حتى الأذان في أذنه التي ستستطيل وتشبه آذان أخواله، وأنه لن ينفعك كثيراً في كبرك. بين ورق الصحف التي تستقبلها بلهفة وفرح من الداخل، وكأنها من أهل البيت، وبين شاشة لامعة، لزجة بسائل الـ«ديجتيل» والتي تشبه بنت الجيران التي لا تحبها، ولا تحب أن تكون حتى أختك. الورق والصحف والعادة الصباحية مع فنجان قهوة، لا تحرص عليها كثيراً، بقدر حرصك على كأس شاي بالحليب، وياليت يكون كبيراً ومعطراً بالسكر، كعادة صباحية في مدارس شبه عسكرية، كانت «البندرة» و«كانتين» الجندي والشاي الكرك المغلي والذي يوزع علينا في شتاءات باردة في كأسات كبيرة بلاستيكية او معدنية تشبه المساعدات العاجلة لإيواء اللاجئين أو إغاثة المنكوبين في بلدان مرشحة دائماً للقلاقل. صباحات تخيلتها دون ورق، وحياتنا خالية من عالم الورق، صباحات لن ترى فيها وجه موظف يحب أن يدمغ أوراقاً قدامه، ويفرح بذلك الإيقاع غير الضروري في الحياة. صباح خال من ورق، ولا رهبة موظف ممتقع لونه يردد النشيد الصباحي: مرّ علينا بكرا، أو المدير غير موجود أو أن أوراقك ناقصة. صباح خال من ورق يشعرك أن الحياة يمكن أن تكون أجمل، وأن لا معنى لرجل فيها يرتدي حذاء قياس 46، وينتقص من قصرك وقصورك، ويوحي إليك أن الحق عليك. صباح خال من ورق يجعل أصحاب الدكاكين الصغيرة الخشبية لطباعة ونسخ المستندات يشعرون بحرقة المعدة في الصباح الباكر، لأنهم لن يروا اكتظاظ المراجعين وتدافعهم، خاصة القادمين من بني ياس والشهامة، والذين تنقص أوراقهم أختاماً كثيرة، وأن لا ضرورة لنسخ من جواز السفر، ولا صورة خلاصة القيد، أو رسالة عدم ممانعة من جهة عملك. صباح خال من ورق يمنع تلك الفرحة الغامضة على ثغر ذلك الموظف القديم الذي لا يزال يطالب بتجديد عقد عمله كل عام، والذي يبدأه بالصلاة، والحرص على إقامتها جماعة في مقر عمله، وأداء صلاة الجمعة في مسجد الهوامل، لأن المدير يصلي هناك، ويقيم مأدبة غداء في بيته، ويستقبل الناس حتى صلاة العصر، ويثنّيه بالحرص كل الحرص إن ذهب في إجازته الصيفية القصيرة إلى القرية البعيدة، وهي قليلة، ونادرة إلا للضرورة القصوى أن يحضر هدايا غير منتقاة، ولا هي مستحبة من قبل المدير، ولا من أولاده العاقلين الذين يرونها أنها ساذجة، ولا تعني لهم شيئاً، ويظل طوال الإجازة القصيرة يتصل بالعاملين في الدائرة للاطمئنان عليهم، وعلى سير العمل، يفسرها البعض من الزملاء أنها اتصالات لتقصي أخبار وحالات «التفنيشات». صباح خال من الورق، ومن العرق، والنوم بلا أرق أو قلق، صباح عالم جديد، ولكنه قريب.. أكيد! يسعد صباحكم جميعاً.