يتصور البعض أن التحول من القديم إلى الحديث هو الدخول في مراحل ما بعد الفراغ، وامتطاء صهوة الحداثة في غياب أدوات التطور والتصور المنهجي والعلمي·· يتصور البعض أن الحداثة هي مسخ للهوية ولحس اللغة ولعق ما تبقى في قاع الكأس من حثالة وعلق·· يتصور البعض أن الحداثة هي استجداء لألوان التطور وحث العقل باتجاهها حتى وإن كانت هذه الألوان مجرد خربشة على ورقة، مقصفة مهملة في قاع مزبلة·· يتصور البعض أن الحداثة هي عكس الهوية وضد القيم ومخالفة للثوابت، بل هي مرادفة للتهور والتضور والتصور الخيالي الذي لا يمت للواقع بصلة ولا يرتبط بحياة المجتمعات بأية وشيجة·· يتصور البعض أن الحداثة هي التخلف في اللغة التي هي وعاء نبتت في جوفه منظومة قيم وتقاليد على مدار قرون وأزمنة، وضع لبناتها عقل إنسان كد وكدح، وبذل الجهد من أجل تأسيس ثقافة تميزه وترسم شكل هويته وتضعه في مقام وقامة الأهم التي نسجت ثقافتها من داخل أنساقها الاجتماعية والثقافية·· يتصور البعض أن الحداثة مظهر من مظاهر التجديد من أجل التجديد دون وعي بأهمية النمو من الداخل والتنامي من خلال إعادة إحياء خلايا وصياغتها وبعث الحياة فيها·· يتصور البعض أن الحداثة تبدأ في وأد اللغة، وجز عنقها، وقطع أطرافها، وبتر لسانها، وتحويلها إلى جيفة لا حياة فيها·· يتصور البعض أن الحداثة مجرد رغبة في التحديث لإقناع الآخر بأننا أصبحنا نتماهى معه في بهاء المكان ونداوة اللسان بلغات أشبه بالطنين والرنين وأزيز السابحات في الفضاء·· يتصور البعض أن الحداثة هي رديف للتنكر لكل ما هو رابض في المكان والوجدان ولكل ما هو ذات صلة وثيقة بفعل الإنسان·· يتصور البعض أن الحداثة تجرد وتفرد وتمرد على الروح والكيان·· يتصور البعض أن الحداثة سرد في الهواء الطلق ليسمع العالم أننا تطورنا وانعتقنا من جغرافية اللغة وتضاريس الهوية·· نقول إن الحداثة هي إخصاب للثقافة وهي تشذيب للهوية من اللغة الوعاء واللغة التي من خلالها كونت الأمة أنساقها الاجتماعية ومنظومة قيمها وحلقة التواصل مع التاريخ·· الحداثة لا تأتي من خارج اللغة ولا من أطراف الأطر ولا من النواحي البعيدة الثقافة ولا من الأرصفة المسكونة بالعبث·· الحداثة تطور من نواة الداخل وهي نمو لخلايا الجسد وأثمار لأشجار جذورها في الأرض وفروعها في السماء·· الحداثة إذا لم تأت من داخل اللغة الأم فإنها تصبح محاولة بائسة لتشق طريقاً وعراً في سفح جبل أصم·· الحداثة إذا لم تعتقد بأهمية اللغة التي ينتمي إليها المجتمع ويتنامى بها فإنها حداثة المدهرشين باللون الأحمر الفاقع·· الحداثة إذا لم تنبع من صلب الواقع لتعيد صياغة مفرداته وترتيب أبياته وتهذيب صلاته بطموحات الناس وآمالهم وأمنياتهم فإنها مجرد البحث عن ماء عذب في قاع ماء أجاج·· الحداثة إذا لم تخرج من رصد الانفعالات والافتعالات والتزلف والتخلف تصبح مجرد حرث في أرض جدباء يباب·· الحداثة إذا لم تضع الهوية مقاماً واللغة الأم قامة فإنها تصبح عداء في خواء وتجريفاً في الهواء·· الحداثة تبدأ من اللغة الأم وتنتهي عند الهوية والاعتزاز بقيمة هذين الركنين·· هو الهدف والغاية·