يمثل المطار للكثير من الناس نوعاً من الرهبة، والارتباك، والتوتر، والقلق غير المبرر، من دون أن يحدد الناس أسباب هذا الخوف، بعضهم يرجعه لركوب المجهول، وبعضهم يرجعه إلى أن قدميه ما عادتا على الأرض، فهو معلق في جو أو في بحر أو في قطار بسرعة الريح، وبعضهم يرده إلى أن النفس خارج محيط الإطمئنان، والناس معظمهم يقدمون الشر على الخير، وبعضهم يرجع كل هذا الهلع والخوف والقلق إلى مفارقة الوطن والأهل والأصدقاء الذين يمكن أن يسندوك في أي لحظة أو ظرف، أو يغيثوك عند كل نازلة، المهم نذهب والخوف يسبقنا• بالتأكيد بعض المطارات العربية، ودول أميركا اللاتينية، ونقاط الحدود فيها، هي الأكثر خوفاً، والأكثر رهبة، والأكثر وجعاً على المعدة من مطارات مثل سويسرا أو الدول الإسكندنافية، ففي الأولى يمكن أن تضيع بكبرك، ولا أحد يعرف لك طريقاً، وبيان الإدانة والاستنكار والنفي موجود بنسخ كثيرة في درج صدئ، مفتاحه في الجيب العلوي لضابط منتهكة حقوقه، ولا يريد إلا الرضا، وكف بلاهم عنه، وعن عائلته، أما الدول الثانية، ففيها يمكن أن تجد من يضيع حقيبته، أو ينسى أوراقه الثبوتية عند موظفة الاستقبال، لأنها استقبلته مثل خلق الله كلهم، ووفق ما تتطلب منها وظيفتها، فرأها أخونا أنها نظرة يمكن أن تنم عن إعجاب بالفحولة، أو يرتبك عند بائعة العطور في السوق الحرة، فيشتري هذا وهذا، ومن ثم ينساها عندها مع بطاقة ركوب الطائرة، أو يمكن أن يفقد نقوده، ويحتار أين وضعها، رغم حرصه الشديد عليها، من كثرة ما يدخل يده في جيبه، ومن كثرة الأوراق والمفاتيح، وحبوب وجع الرأس، ويغيظني بعض الناس الذين يستعملون لهذه الأشياء حقيبة يد صغيرة مثل شنطة مكياج الزوجة، يظل يحوط بها، محتاراً أين يضعها، يراوح بها بين يده اليمنى، أويطويها على رسغ يده اليسرى، هؤلاء يذكرونني بعودة المعار إلى بلدته لأول مرة في إجازة الصيف، بعد سفرته الطويلة إلى إحدى دول الخليج مثلاً• وقديماً كان كبار السن يلفون حول وسطهم ''كمر'' يكنزون فيه أموالهم القليلة، إذا ما نووا السفر إلى ''العالي أو مرج'' للعلاج، أو نووا الحج ،أو صيّفوا في مومباي أو شيراز، حيث تجد ''الشيبة'' ملغماً وسطه بالنقود، لا يفارقه ''محزمه''حتى عند نومه، ومن ثم ابتكر لهم أحد الهنود ''البانيان'' المرابين طريقة تحويل، بحيث يعطيه من هنا ''بروة'' مكتوب فيها التعليمات، وحين يصل الهند أو إيران يذهب لتاجر بعينه، ويعطيه بالروبية أو التومان ما يعادل تحويلته• الخوف من الضياع وتضييع المال والأوراق الثبوتية، والخوف من المطارات جعلت هذا الإنسان البسيط يدفن رأسه مرة في جهاز فحص الحقائب، ولعله أول مرة يسافر أو لعل الإرهاق الذي يتكبده بعض الناس الذين يخرجون من قراهم البعيدة، ويركبون أكثر من وسيلة نقل، والمبيت في أروقة المطارات، وتعب وصايا الأهل، وطلباتهم، ودموعهم أثناء التوديع، وفراق الزوجة والأولاد، مع تعليم شبه منعدم، فحين وصل صاحبنا المطار الذي يشبه طائراً خرافياً أو مدينة صاخبة، ورأى الحقائب الكبيرة تمشي على نفس الخط الأسود الذي يشبه ما كان يمشي عليه قبل قليل، ولمح حقيبته فركب معها داخلاً تحت جهاز الكشف متعرضاً للأشعة، من غير أن يدري، ودون أن ينتبه له أحد، الأمر الذي فاجأ موظفة الجمارك الشابة شبه الناعسة حين ظهرت لها على شاشة جهازها جمجمة بني آدم كبيرة تتحرك، وجهاز عظمي تدب فيه الحياة، فظهرت تلك الصرخة الأنثوية التي تختبئ في مكان ما في صدر المرأة، وما كاد صدى صرختها يتردد في الأرجاء، حتى ظهرت لها الجثة من خارج الجهاز واقفة، وهي ترتدي جلباباً وتبتسم من الرهبة وقلة المعرفة والذهول