خرجت من مكتب جبران يومها، وإحساسي يقول: إن جبران طاقة كبيرة، وشابة، وصحية، ويريد أن يختزل الأمور مثلي، ويحرق المراحل قبلي، وإن إيقاع ساعات ''النهار'' لابد وأن يتغير، و''الديك'' الذي يؤذن شعاراً ونهاراً لجريدة ''النهار'' الطالعة صبيحة كل يوم· ويوم بيروت كان لابد وأن يتغير، والسياسة القديمة في لبنان لابد وأن تتغير، وأن زمن العائلات السياسية، والاستحقاقات العثمانية، والزعامات الوطنية لابد أن تتغير لصالح المدنية والعصرنة والحداثة في الأشياء وفي القيم الحضارية، ومن أجل الإنسان الجديد في لبنان بهذه الفسيفساء الثقافية المتنوعة والمتفردة، وبالتالي لعموم الإنسان في الوطن العربي، ومحاولة صنع هذا التقارب الحضاري ليصبح إنسانناً كونياً، بعيداً عن خلافات واختلافات عرقية ومذهبية ودينية وقومية وغيرها من مخلفات السياسة العقيمة· اتفقنا لأننا كنا قريبين في العمر، وفي التخصص، والتوجه وربما·· وأن هناك أشياء كثيرة يمكن صنعها لخير الإنسان العربي، بعدها تلاقينا في مدن مختلفة، وإن كانت بيروت هي البداية وهي ستكون الختام· وفي يوم ربما كان بين الشتاء والربيع كنت مدعواً لزيارة بيروت في عرسها الثقافي، معرض كتابها السنوي وكنت فرحاً بإصدار روايتي وحكايتي ·· كـ''طائر وحيد·· بجناح بعيد نحو فضاءات الحياة الجميلة الملونة''، كان فرحاً أردت أن تشاركني بيروت التي أحب جزءاً من الغواية لأنها كانت أصل الغواية، ومغامرة الكتابة، حكايتي كـ''طائر بجناح أبعد منه'' كان مقدراً لها أن توقع في معرض كتاب بيروت، وقبل يوم وليلة من ذلك الفرح العربي لقراء الضاد وأفق حضارتها، تناقلت المحطات الأخبار السيئة من بيروت، تفجيرات، ركام، حشود، وحوادث تشبه اغتيال الحريري و''مستقبل لبنان''· كان الخبر محزناً ومؤلماً وموجعاً وصادماً، ولو كان المتلقي راعي كنيسة لم يعرف الدنس بعد، ويمكن أن يعطي خده الأيسر للاطم خده الأيمن، ولا يبالي، لكن البدوي الساكن فيّ والذي لا يحب أن يصعّر خده، ويمكن أن يقول كلمته، ولو على قص رقبته، ولا يرضى أن تمر الأمور هكذا دون أن يعلن موقفه، فكان قراري بالغياب وفرح مشاركة محمود درويش في توقيع كتابه في مقر دار الريس في معرض كتاب بيروت، كانت هناك فقط برقية صغيرة وموجعة إلى رياض الريس، وإلى بيروت التي أحب، وإلى لبنان الذاهب نحو جروح أعمق، وعذابات لا تنتهي·