كُنت في حفل كبير أقامته إحدى مؤسساتنا الوطنية الضخمة، تقدمت مسؤولة عربية الجنسية لتلقي كلمة المؤسسة نيابة عن مديرها العام وهو رجل غربي، فإذا بالمسؤولة التي توسم الرجل أنها ستبعد عنه حرج عدم إجادته ''العربية''، تلقي الكلمة بـ''الإنجليزية'' لغة العصر، بدلاً من لغة دهر أدبر -كما يتوهم الذين هجروا أجمل جميلات اللغات- ولكن ما وضع منظمي الحفل في حرج حقيقي أن ضيف شرف المناسبة، وهو سفير دولة أجنبية ألقى كلمته بلسان عربي فصيح، وأتبعها بملخص عنها بـ''الإنجليزية''، وبعدها سرعان ما فُتحت قاعة الطعام في ذلك التوقيت لتضيع التساؤلات المثارة مع حركة العيون المتسارعة بحثاً عن الشوك والملاعق والسكاكين· قبل ذلك، حدثني دبلوماسي أوروبي شرقي عن تجهيز بلاده له للعمل في البلدان العربية بإلحاقه بدورة مكثفة للغة العربية، بحيث لم يجدها فقط بل أصبح يكتب بها أبحاثاً ودراسات استشراقية، وعندما حل بيننا هدد عدم اضطراره للتخاطب بها خلال مدة خدمته كل حصيلة اكتسبها من لغة ''الضاد''· بعد واقعة الحفل، كُنت في إحدى المكتبات الخاصة، ورأيت طبيباً عربياً معروفاً يبحث مع صغيره عن بعض المجلات، وهما يتخاطبان بـ''الإنجليزية''· وفي المكان نفسه كانت هناك سيدة يابانية مع صغارها أيضاً يبحثون عن ضالتهم، ولكنهم كانوا يتحدثون لغتهم الأم، شأنهم في ذلك شأن كل اليابانيين الذين أمضيت في بلادهم أياماً لولا وجود مترجم معي لأصبت بالجنون، وأنت تتعرف إلى مسؤولين تخرجوا في أشهر وأعرق الجامعات الأميركية والغربية، ومع ذلك ينتظر أحدهم مترجمه كي يبدأ معك أي حوار رسمي· أيها الأفاضل، ان تستعرضوا مهارة أطفالكم في الرطانة شيء، وتكريس الهوية والانتماء شيء آخر، ولا داعي للإعادة والإطالة ان اللغة إحدى أهم أدوات ومقومات ذلك· وأول هزة يمكن أن يتعرض لها الإنسان تجريده أهم مكونات شخصيته، لغته الأم· وذلك يمهد سلخه من هويته وتعريض انتمائه للخطر· إن تعاملنا مع لغة ''الضاد'' بهذه الصورة جريمـــة بحق جيل اليوم· ولنتحـــرك قبل فوات الأوان·· حتى لو جاء تحركنا متأخراً جداً جداً·