بعض الزوجات يشكون من الزوج الصامت، ذي الصوت الخافت، والوجه الباهت، والفكر الشارد، في فضاءات مبهمة ومعتمة، يشعرن بالأسى وضيق الصدر وحيرة الفكر، وقسوة الأمر، فلا حل ولا حيلة ولا وسيلة تجاه هكذا أزواج، إلا الالتفات نحو الصغار، والزعيق في وجوههم، وإثارة الجلبة والفوضى، لعل ذلك ينبه الزوج الى أن في البيت الذي يجلس تحت سقف بنائه يسكن بشر يشاركونه الهمسات والخفقات والهموم والطموحات، فيجب أن يتحرر من صمته المريب، وجموده الغريب، وتصرفه العجيب، ويلقي بالاً إليهم، ليشعروا أنهم أحياء، يتنفسون ويفكرون ويثرثرون ويتقاسمون أطراف الأحاديث المهمة والساذجة، ويتشاطرون معه في كل حركة وفي كل بركة، وفي كل سكنة من سكناته، وأناته وآهاته وتفسيراته وتأويلاته·· في كثير من الأحيان لا يجد أسلوب الزوجة الفوضوي أي صدى، بل إن العشوائية التي تثيرها تلقى رداً سلبياً، فالرجل الذي يراد له أن ينتبه الى مشاعر الزوجة، تجده ينفض ''غترته'' ويتجه نحو الباب، فيدلف ليغلقه خلفه دون سلام عليكم، ضارباً عرض الحائط ما تبديه المرأة من دهشة ومن همهمات وتمتمات وبحلقة تفسر معاني الإحساس المر وهي تتلقى هذا الرد القاسي والمتعسف والمسف تجاه أذنها التي تريد أن تسمع كلمة ترد الأنفاس الى الرئة، وتعيد الإحساس الى الروح، وتحرك كوامن النفس العطشى التي لا يرويها نهر ولا بحر سوى كلمة من شريك الحياة· والفجوة تتسع، ودائرة الصمت تكبر وتكبر حتى تصبح بالوناً منفوخاً بنار وغبار، ينفجر فجأة فيثير الزوبعة ثم تتحول الزوبعة الى جلجلة، ثم الى زلزلة، ويسقط الضحايا، وتهدر المقدرات وتصبح الشركة التي قيل عنها إنها مؤسسة اجتماعية سامية، مجرد بقايا وأنقاض وركام مبعثر، أول ضحاياه هم أولئك الصغار، فتتحول قلوبهم الخضراء الى صحراء قاحلة، ناحلة، مشاعرها أشجار جرداء ورغباتها في الحياة سيقان يابسة، عابسة، تتكسر لمجرد هفهفة نسيم ولا تذكر من نعيم الحياة شيئاً سوى أنهم مجرد أرقام ما بعد الصفر، لا قيمة لها ولا معنى لوجودها· ضحايا كثر نراهم في الشارع والأزقة والمدرسة وأماكن واسعة من هذا الكون، لأن الآباء كسروا طوق الحُلُم عندما فقدوا الحِلْم، ولأن آباءهم توارت عن قلوبهم أخلاق التربية ومعاني التواصل مع هذه الرؤوس الصغيرة والقلوب البيضاء التي لم تأت لتتلقى الصدمات، وإنما جاءت لتكون عشباً يرعاه أصحابه باليد الحنون، والكلمة الطيبة الرطبة، تبلل وريقات أفئدتهم الطرية اللدنة· ضحايا كثر لأن فضاء بعض البيوت أضيق من ثقب إبرة وأخشن من وعورة الصخر، وأجف من تربة نسيها المطر، منذ دهر وأقسى من ناب وحش مفترس· ضحايا كثر لأن الكبار أصغر من أن يكونوا أولياء أمر، فلذلك تاهوا وضيعوا سواهم في طريق التهلكة·