زارتني تلك التي زارت المتنبي قبل ألف عام· ويبدو أنها ما زالت على عادتها التي خبرها عن كثب أبو الطيّب· فمثلما فعلت به قبل دهر، فها هي اليوم تجيىء متسللة تحت جنح الظلام، وتعاف نفسها المطارف والحشايا، وتختار أن تنام في العظام· ولولا أن أبا الطيب قد خلّد الحمى التي فتكت به بميمية رائعة (يرجى مراجعتها في أعلى هذه الصفحة)، لظننا أن الحمى التي تصيب البشر اليوم هي نتاج للعولمة، أو أنها مرض عصري نجا أجدادنا في القرون التي سبقت الهجرة أو بعدها بقليل من سقمها وعللها وأعراضها المزعجة· لقد وصف المتنبي علة مارقة ألمت به، فانطبعت صورتها في ذهن كل من قرأ قصيدته على مر العصور· كان المتنبي في هذه القصيدة طبيبا ذا حساسية خاصة، يقدم المرض لسامعيه أو قرائه في أبهى صورة ما يجعله مرغوبا أو مشتهى· وهو بذلك يختلف عن الأطباء الحقيقيين ـ عن ابن سينا مثلا ـ الذين تولوا وصف الداء وشرح أعراضه وتبيان تفاعلاته وتحديد علاجه، بلغة العلم الجافة· فقرأ ما كتبوه المهتمون أو الدارسون وأعرض عنه من لا ناقة له به ولا جمل· أشك أن أحدا غير المتنبي ''حكى'' عن تجربته مع الحمى، أو الإنفلونزا بحسب التسمية العصرية، لكن المرض بمختلف أنواعه كان على مختلف العصور مادة للروائيين والشعراء، خصوصا عندما يكونون هم المبتلين· ربما تجد هناك من ''يستحي'' بمرضه فيحاول أن يخفيه أو يتجاهله من باب اليأس أو المقاومة، لكن من كتب عن مرضه فإنما فعل ذلك بشجاعة مطلقة· من بين هؤلاء كافكا وتشيخوف وجورج أورويل الذين أصيبوا بالسل، ومن العرب بدر شاكر السياب أشهر المتصارعين مع المرض (السل) والذي انعكس في سنواته الأخيرة على إبداعه الشعري كما في ''منزل الأفنان'' و''شناشيل ابنة الجلبي''، ومثله أيضا أمل دنقل الذي صرعه السرطان ''في الغرفة رقم ''8 وهو عنوان ديوانه الأخير· كيف عالج المتنبي ''حماه''؟ لا نعرف إن كان قد تجرع السوائل التي تنصح بها الجدات والأطباء على حد سواء، ولم يبلغنا إن كان حصل على وصفة طبية بمضاد حيوي يفتك بالمرض والمريض على حد سواء، لكن ما نعرفه أنه كتب قصيدة· وبعد ألف عام، يعود لتلك الحمى الفضل، في توفير مادة لهذه الزاوية·