النقد في الوقت الحاضر أصبح نصاً إبداعياً، وليس مفتشاً عن زيف النقود أو جودتها· هذا الحديث لا جدال فيه، فلم تعد الكتابة تختلف عن صناع الفن المعاصر، لأن الفن المهجن يعتمد على الفكر، مما يجعله يغوص في عمق مشابه لعمق الكتابة · في الوقت الحالي، متطلبات الفن مشابهة لمتطلبات الكتابة، من ثقافة عميقة ومعرفة واسعة بالزمان والمكان ودراية بالحدث، أصبحت الكتابة جزءا مكملا للمنتج الفني وباعثة الحياة فيه، حيث الفن والكتابة هما تعبير عن الذات، فالكاتب يخط بالقلم بغرض نفسي نابع من إسقاطات عاشها مع الداخل وامتزجت بالخارج، والفنان يقوم بالفعل نفسه من خلال أدواته الفنية· وأن الحديث عن أن الفنان صانع الفن لا يستطيع الكتابة عن فنه، يعتبر جدلا عقيما يطرق جدران منازلنا، يريد أن يفصل الفنان عن التنظير ونقده لعمله الفني ولذاته، دون أن يدرك أن من يربط الحبال هو القادر على فك عقدها، وأن صانع المسك قادر على التعريف بأنواع الأزهار الممزوجة ومقاديرها؛ وأن تمكن ''غرنوي'' ( بطل رواية العطر للكاتب باتريك روسكيند) من اكتشاف سر صنعته، وبلوغه القدرة على صنع العطر من رائحة البشر، يشبه قدرة الفنان على نقد عمله وبلوغه اكتشافات جديدة داخل عمله· وهذه الرواية (العطر) كان لها صدى واضح وهي تنقد ذاتها بذاتها ولم تكن تحتاج إلى قلم رصاص يخيط على صفحاتها شكل السالب، ثم يعيد الخياطة على شكل الموجب، بل تترك العنان لقارئها كي يغوص هو في ذاته التي تطفو على سطح المحيط غير مبالية بعمقه· الذات النقدية هي مرحلة يعيشها الفنان، ويسجل من خلالها مفارقة ذاتية، تعيش فيه لآخر لحظة زمنية، ثم تدفع به إلى الهاوية بعد انتهاء المنفعة واللذة الذاتية، ويبقى للذات النقدية خطاباتها القريبة والبعيدة عن الأنا المتصلة مع الآخر، فهذه الذات تشكل محيطا يسمح للقرش بافتراس سمكة، قد بنت لها مسكنا معلقا، فلا تطفو ولا تغرق، ولكنها تموت· فكلمة فنان وناقد لم تعودا منفصلتين، بل تمثل شخصية واحدة صانعة للفن، فالحداثة في الفن عبارة عن لحظة قدسية لا يستطيع المشاهد تأملها، إلا عبر حروف تخط إلى جانب المنتج· فنقد الذات هي مرحلة انتقالية يعيشها الفن الحاضر وقد تتطور أو تتلاشى في المستقبل·