المقاهي في البنايات تمارس سياسة إغراق الشوارع والمواقف بالزحام الممل والقاتل، فعند الزوايا والمنعطفات تداهمك مؤخرات السيارات المعقوفة والمصفوفة بشكل حلزوني لا تحل معضلته أي شبكة خارقة في علم الرياضيات والهندسة الوراثية لدراسة العقول التي تفرض إرادتها على البشر دون وازع من ضمير أو وعي بأهمية احترام آداب الوقوف في الأماكن العامة· وإذا كان الناس في سابق العهد يشكون من الدخان المنتشر كضباب قلق، صاروا اليوم يواجهون مشكلة أشد وأنكى من سابقتها، هي مشكلة غلق الأبواب والمنافذ والمعابر على المارة والسائرين في رحاب الله وفضائه·· فالمواقف التي حددتها البلدية لتسع عشرة سيارة مثلاً صارت تختنق رئتها بعشرات السيارات، وبعض أصحابها من نزاهته ونباهته واتساع قريحته، يحتل الأرصفة ويصعد التلال والهضاب ويخوض معترك حياته ليصل الى ''شيشته'' ببسالة الرجال الشجعان، لا يهمه إن كان في فعله هذا يسيء إلى نفسه وإلى بلده، ويضر بحال الممتلكات العامة، ويعرقل السير ويضيق على عباد الله·· وأصحاب المقاهي ينصبون الأفخاخ ويشرحون الصدور، وهم كنافخ الكير لا يهمهم الشرر بقدر ما تدور أعينهم زائغة باتجاه الجيوب المفتوحة والمنفوخة، بدراهم الأمل· نفكر كثيراً ونتخيل شكل المدينة بعد عشرات السنين، ماذا ستؤول إليه إذا بقي الحال هكذا واستطاع أصحاب المقاهي أن يفرضوا قوانينهم ويسلطوا إرادتهم على الغير، ويستولوا على حرية الشارع ويسطوا على حق الناس في العيش بلا منغصات ولا مكدرات ، نتخيل ذلك ونصاب بالصدمة لأنه ما من شك في أن الأمور تسوء وسوف تزداد المواقف حصاراً وسعاراً واندحاراً، وسيصاب الناس بالغرق وسط موج هائج من السيارات التي لا تعرف عقبة ولا كبوة إلا وسارت باتجاهها لتؤكد للناس أن أصحاب هذه السيارات يتمتعون بحظوة وسطوة وقوة خارقة لا تشوبها شائبة، ولا تصدها خائبة، هؤلاء متفردون، متفوقون على غيرهم بالتجاوز والقفز فوق القوانين، تدعمهم رغبة أصحاب المقاهي الذين أخذوا الضوء الأخضر، ولا ندري من أين لكي يسنوا قوانينهم من غرف الجمر التي يسعرونها ويضعون أعرافهم وتقاليدهم لتصبح تعميماً قهوجياً لم يعرفه التاريخ من قبل، ولم يعتده الناس في سابق السنين· هذه المشكلة بحاجة إلى تحرك عاجل وحاسم وصريح إلى مواجهة لا تقبل المساومة أو التسامح لأن المشهد الحضاري لبلادنا أهم من جبر الخواطر، ولأن المحافظة على المنجز المتفرد الذي تتمتع به مدننا هو الأهم من كل الأخلاقيات التي لم تجلب لنا إلا فساد الذمم وضعف الهمم في إصلاح الأخطاء التي يرتكبها من لا تهمه مصالح البلد ومقدراتها وقيمها الثقافية·