مثل عاشق دنف احتضن عوده، لامسه بصحن خده، وأسكنه فضاء صدره، وأصابعه الطويلة المدربة بدأت بالرقص كغجرية حافية، رددت الأوتار وقع الأصابع، صد، وقرار، والنغم استباح المكان مبحراً بأشرعة القلوب، بحثاً عن شعر أنثى، عن قدّ غض لا يزال يترعرع في الثوب المدرسي، عن وطن كسر فيه التاريخ، ومدينة يستباح وقتها، وأناشيد في حناجر جرحتها الآه، وأقدام حافية في رحيلها السرمدي· الريشة ترتعش كطائر نزق مبلول بالندى·· أسكن خده على عوده، وبدأ اللحن يتسرب حيث يشتهي من الجسد، تحركت قدمه اليسرى تنادي إيقاعاً هارباً، والرأس امتلأ بالكثير·· عذابات الطريق الموجعة من بغداد إلى بابل، وحريق الرماد في نخيلها، العامرية وسخونة دم الأطفال، والباب الكبير الذي فتحه الشيطان لمدن كانت هاجدة، ساجدة، واحدة على خد دجلة، وأخرى تسير مع الفرات، وأخرى مشطورة بين الشط والبحر، وواحدة هناك بعيداً حيث للسماء باب وسجادة خضراء· للعود بحّة تهز الصدر، كانت موسيقاه تنفلت كظلالة غيم سابحة، تجوب الأفق، ومرافئ الحضور·· الأكف تشتعل، والعيون تتخطى الحجب·· ثمة صلوات بين العازف وآلته، ثمة عشق يحترق·· والموسيقى وحدها قادرة على قبض كل هذه التضاريس، والأصابع النظيفة أكثر من أصابع طبيب تلامس الوتر كالنبض حيناً، وحيناً آخر كانسياب الماء·· أيّة حياة يبعثها هذا التجويف الخشبي في القلوب·· هناك تناغم بين الضوء المنبعث بألوانه الصبيانية والشجن الخارج من صدر العود·· أكف الحضور لا تزال تلهج بالفرح، عيون عاشقين تتلاقى في مساحة ود، حضرة صفاء، وكحل يغتسل في عيني امرأة خمسينية متزينة، وابنة أربعة عشر عاماً تنزّ من مقعدها، يضحك شقا عينيها، وعجوز مهاجر ما زالت تبكيه صباحات العراق وصحبتها، وتلك اللهجة التي تذوب سكراً في الفم· ابتسم العازف، حيا جمهوره، نهض، تعالى التصفيق، رفع كفيه والريشة تتوسط أصابعه، حيا الجمهور بحركات ممثل صامت، لوح بيديه وانحنى، وزع ابتسامات من قلبه، ترتجف فرحاً وخجلاً· جلس، دندن، وبدأ لحناً جديداً، تاركاً مساحة لانتهاء دوي التصفيق·· كان يختلس نظرة بين الحين والآخر للحضور، متداركاً حرج التصفيق، وفرحه به· قام العازف ثانية وانحنى·· تقدم خطوات وانحنى، أظلمت القاعة، وعم الهدوء، تلاعب عامل الإضاءة بالنور·· رسم أشكالاً نورانية، سلط ضوءاً كاشفاً على العازف، بدا كصورة مترجرجة على وجه الماء، والدخان الأبيض بدأ يسعى من أرجاء المسرح، خالقاً للمكان غبشاً حالماً، فيخال العازف وكأنه محارب قديم خرج لتوه من أنقاض يونانية، أو فارس شق فجراً بغدادياً، وخرج معفراً بروائح الثرى والياسمين، ومسك المدن القديمة· رنّ وتراً كان منسياً، راوح عليه بين ريشته وأصابعه، أخرج صوتاً شبيها بكحة صبية نعشقها، زاوج بين الرنين والتطريب·· أشعل مقاعد الحضور، كان صوت العود يصل إلى النفوس ويكاد يبكيها، يحملها معه إلى أقصى مساحات الحلم، أمكنة الفرح، ساعات الحزن ويبكيها· هكذا·· قالت أبوظبي آه·· وفتحت صدرها للبيت الجميل والجديد، والذي له سعة العالم، وللفتى الحامل عوده، والحالم بأشياء جميلة وملونة للناس والأوطان· بيت العود·· ونصير شمة·· لك ولبيتك القلب كله·