لا أستبعد أن يكون الراحل الطيب صالح، قد تلقى قبل يوم واحد من غيابه تهنئة جديدة على عمله الفذ ''موسم الهجرة إلى الشمال''· فمنذ صدور هذه الرواية عام ،1966 تنعقد ''مجالس التبريكات'' بصفة دائمة في كل المسافة الفاصلة بين أم درمان وطرطوس، والبحرين ومراكش، فضلاً عن المغتربات، حتى كاد صاحبها المبدع يعد اعتباطاً وتعسفاً من أصحاب الواحدة· وربما لهذا السبب لم يهمل الطيّب صالح مناسبة لكي يعبر عن حرجه من ذلك الإلحاح، حيث روى مرة بأسلوبه الحكائي المرح، كيف أن ضابط الجوازات في مطار عربي رحب به متهللاً: ''أهلاً بالأستاذ صالح الطيب بتاع الطيور المهاجرة''، وقد برر الأديب الراحل، للضابط المخطئ، التداخل المربك في الاسم والعنوان، الناتج عن التكثيف الإعلامي وما يرسِّبه من انطباعات في أذهان العامة، وكأنه بذلك أراد أن يشير إلى حق أعماله الأخرى: ''عرس الزين'' و''مريود'' و''ضو البيت'' و''دومة ود حامد'' و''منسي''، بالإضاءة· ومع ذلك تظل لـ''موسم الهجرة'' ريادتها المتكئة على موضوعها أولاً، وتقنيتها ثانياً، وبطلها مصطفى سعيد ثالثاً، الذي كاد يصبح رمزاً في إشكالية العلاقة بين الشرق والغرب، وهنا لا تكمن مسؤولية المؤلف بقدر ما هي مسؤولية المتلقي (والناقد طبعاً) في قراءة العمل وفق افتراضات معينة· لم يكن الطيّب أول من توغل روائياً في العلاقة بين الشرق والغرب، أو الشمال والجنوب، فقد سبقه توفيق الحكيم في ''عصفور من الشرق'' برومانسيته البدائية، وسهيل إدريس في ''الحي اللاتيني'' بإخفاق بطله وجدانياً وعاطفياً، ثم جاء مصطفى سعيد بروحه الانتقامية، لكي يأخذ العلاقة إلى مدياتها الصدامية· والمثير أن أغلب الذين ''درسوا'' بطل الطيّب صالح قصروا دراساتهم على مرحلته ''الانتقامية''، وكادت بعض الكتابات تحوله إلى بطل شعبوي يسد الفجوة بين الشرق والغرب، أو يجيب عن السؤال التاريخي: لماذا تقدموا وكيف تأخرنا؟ بالجنس· ولولا دراسة أفنان القاسم، التي ترافق مصطفى سعيد ''القاتل'' وعودته مكسوراً إلى السودان، لبدا التعتيم على هذه المرحلة من حياة البطل مقصوداً· ندرك الآن أن لرواية ''موسم الهجرة'' سطوة لا يمكن مقاومتها على الرغم من تحرج صاحبها، وهنا تكمن عظمتها، التي تربط اسم الطيّب صالح بها، على غرار ما فعلت الأعمال الخالدة مع مؤلفيها· ولأجيال عديدة مقبلة، سوف يظل أثر الطيّب صالح موضوعاً للقراءة والدراسة، وطالما أن الغرب غرب والشرق شرق· تصحيح: أوقعتني الأرقام، الأسبوع الماضي، في خطأ مع الشاعرة الأميركية أليزابيث ألكساندر· فقد ذكرت أن عمرها 64 عاماً، بينما هي في الثامنة والأربعين، ما اقتضى التصحيح والاعتذار من الشاعرة والقراء· عادل علي adelk58@hotmail.com