لم يكن كثير من طلابي قد قرؤوا شيئا للطيب صالح عندما قررت لهم روايته ''عرس الزين'' للدراسة والتحليل في مادة النثر الحديث، لكنهم بعد أيام كانوا يتحدثون عن الزين كشخصية مألوفة وحميمة بدءا من اسمه المميز، وقد لفت انتباههم انتشال الطيب صالح للزين من الهامش الاجتماعي إلى المركز وزواجه بنعمة التي ترفض وجهاء القرية، وتساءل بعضهم عن إمكان وجود حدث مماثل في الواقع يتحول فيه الفتى الأبله الظريف والدميم بطلا تتزوج به أفضل فتيات قريته· تنتهي الرواية والزين وسط الراقصين، (واقف في مكانه في قلب الدائرة، بقامته الطويلة وجسمه النحيل فكأنه ساري المركب)· راح الزين يقود الحشد منتصرا على الجماعة التي عدّته مجنونا وعاملته بقسوة فثأر منها وقام بالتعويض عما أحسّه غبنا وتهميشا·· فكانت النهاية برمزيتها تشير للانحياز لمخلوقات الهوامش المقصاة والحواشي المهملة، وكان السودان نفسه بلد الطيب صالح يقف في قلب دائرة الرواية العربية ويظهر بإبداعه إلى العالم من بعد عبر أعماله· عندما رحل الطيب صالح في الأربعاء الرمادي الحزين تذكرت بكاء الزين ليلة عرسه عند قبر الشيخ الحنين، كان والدا رمزيا له وبصوفيته ورقة مشاعره قدّم البديل للأب الغائب في الرواية وقام بتعويض آخر، هو عصب روايات الطيب صالح في الحقيقة· وإذا كان الدارسون يعرّفون الرواية بأنها فن التحولات فإن الطيب صالح يجعلها فن التعويض عن الحرمان والفقد، كما هو حال السرد العربي في أجمل متونه كألف ليلة وليلة، وعلى أساس ذلك التعويض يتحول الأشخاص وتتحول مسارات السرد وأحداثه· هكذا نلتقي مصطفى سعيد في ''موسم الهجرة إلى الشمال'' فلاحا مقترنا بامرأة من غمار الناس بعد أن قتل زوجته البريطانية وعاد من رحلته الشمالية خائبا، كأنما ليترجم مقولة إن الشرق شرق والغرب غرب فلا يلتقيان ولا يأملان اللقاء لأنه مستحيل فالشرق الكتلة والشرق الجهة ينأى عن الغرب كتلةً وجهة، لذا كان سفر مصطفى سعيد بطل ''موسم الهجرة إلى الشمال'' ودراسته وزواجه ومحاولة العيش في الغرب ضربا من المستحيل الذي أعاده إلى النسيان في زاوية قصية من وطنه، ولكن ليلامس قضية من أخطر ما كان ـ ولا يزال ـ على لائحة الثقافة والآخر· لقد عالج الطيب صالح بسرد روائي سلس بسيط وموجز أشد القضايا تعقيدا، وعانى ما عاناه أبطاله وبلده وثقافته العربية من أسئلة حارقة وعنت وتهميش، لكن احتفاء الرواية العربية به واغتنائها بجهده كان مكافأة للإبداع غير المصنوع بشهرة أو شائعة·· تقرض المنافي بموت الطيب صالح قلما آخر وتُسكت نبض قلب مرهف لكن ميراثه سيحكي لأجيال القراء لمدى لا يحده زمن أو يوقفه غياب·