يمكن تقسيم عصور الإبداع من حيث علاقة المبدع بالعالم الذي يحيط به، ويعيش فيه· في البداية هناك المحاكاة التي أراد بها المبدع أن ينقل العالم الذي يراه كما هو، ويصوره كما لو كان ينقل صورة على مرآة أمينة في علاقتها بالأصل، ويصوّره كما لو كان يلتقط صورا لمفرداته بآلة تصوير لا تعرف سوى نقل ما تواجه، ولذلك كان فلاسفة الإبداع القدماء يرتفعون بقدر النحت والرسم، لأنهما فنانان تتوافر فيهما درجة أعلى من تحقق المحاكاة، وكان التمثال لا يعد ناجحا إلا بدرجة تطابقه مع موضوعه في الشكل والهيئة والملامح المائزة، وكان الرسم نوعا آخر من المرآة التي تتطلع إلى صورها فترى العالم كما هو بلا فارق كبير· وفعل أنصار المحاكاة الأمر نفسه في الشعر الذي قارنوه بالرسم، فذهب بعضهم إلى أن الشعر رسم ناطق والرسم شعر صامت، وفضلوا التشبيه على الاستعارة، لأن التشبيه لا يخلط بين الأشياء، ويبقى على المسافة المنطقية بينها، ذلك على الرغم من قولهم إن التشبيه يدني بطرفيه إلى حال من الاتحاد· ولقد كانت الحركة الرومانتيكية ثورة على المحاكاة التي رُمِزَ إليها بالمرآة التي تنقل صور العالم الخارجي دون أن تتدخل فيها، والتي جعلوا من المبدع نظيرا لها، خصوصا في حرصه على نقل ما يحدث في الخارج دون إشارة إلى تأثره الداخلي بما يقع في دائرة إدراكه، واستبدلت الرومانتيكية برمز المرآة على الإبداع رمز المصباح لهذه الأسباب، فالمصباح يشع من داخله، مثله في ذلك مثل الأديب الذي لا يعنى بنقل الخارج، بل ينقل ما يتخلق في داخله من مشاعر، فإبداعه صورة لنفسه لهذا السبب، وهو تعبير عن تجربته الداخلية لا الخارجية، فهو إبداع ذاتي بالدرجة الأولى وليس إبداعا غيريا، وآية ذلك أن الضمير الغالب في خطاب الإبداع هو ضمير المتكلم مفردا، أو جمعا، ذكرا، أو أنثى وليس ضمير المخاطب أو المخاطبين، وكان الجنس الذي يحتل المرتبة الأعلى في الإبداع الرومانتيكي هو الموسيقى لأنها تنقل نغمات الروح، وتماوج الذات الداخلية لمبدعها، فتحمل مستمعها على أثير الشعور إلى عوالم ليس لها حدود·