هكذا ودعنا الروائي السوداني الطيب صالح الذي كان طيباً على الدوام، وصالحاً إلى أبعد حد، تاركاً اسمه محفوراً في متون الأدب العالمي، وفي قلوب كل من عرفه، وفي ذاكرة المدن التي عاش فيها، أضحكته يوماً أو حملت ثقل غربته، أو كفكفت دموع حزنه، أو بشرته بما يفرح قلبه· توفي الطيب صالح في لندن، هذه المدينة التي عرفته، وعرفها مثل راحة كفه، وربما أهدته روايته الخالدة ''موسم الهجرة إلى الشمال'' وعاد منها محمولاً على نعش ليستقر في بلاده السودان الذي وإن غاب عنه، وغرّبه، إلا أنه كان يحمله قبل أن يحزم حقائب سفره إلى أي مكان، تلك هي علاقة المبدعين بالأوطان، تبقى عزيزة لا يساويها أي شيء، دون أن يدري الآخرون، ولا يريد هو من الآخرين أن يدروا، علاقة أكبر حتى من التفكير السياسي أو الانتماء الطائفي، أو الضيق المحلي والجهوي، علاقة حب سرمدية، لها طقوسها، ولها خصوصيتها، ولها طُهرها، ولها عبء حملها· لقد شيعه العرب في مختلف أنحائهم، وباختلاف نحلهم من معارف ومحبين وكتّاب رفاق رحلة القلم، ومثقفين وسياسيين وفنانين، وفي السودان تقدم المشيعين الرئيس عمر البشير، والصادق المهدي زعيم حزب الأمة المعارض، وجموع غفيرة من المواطنين الذين طالما أفرحتهم كتاباته، وطالما حضتهم على البقاء، وعلى الكفاح، وعلى الصبر· ولد الطيب صالح عام 1929 في قرية ''كرمكول'' في إقليم مروي شمالي السودان، قرب قرية ''دبة الفقراء'' وهي إحدى قرى قبيلة الركابية التي ينتسب إليها، انتقل الى الخرطوم حيث التحق بالجامعة التي لم يتم دراسته فيها، منتقلاً إلى لندن عام ،1952 حيث عمل في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية ''بي بي سي'' وشغل منصب مدير قسم الدراما فيها، ثم عمل في وزارة الاعلام القطرية، بعدها غادر إلى باريس حيث شغل منصباً استشارياً في مقر اليونيسكو في باريس·ذاع صيت الطيب صالح كروائي وقاص بعد نشر روايته ''موسم الهجرة الى الشمال'' في بيروت عام ،1966 لتصبح فيما بعد واحدة من أهم الروايات العربية والعالمية، لكن السلطات السودانية منعت تداول هذه الرواية في التسعينيات من القرن المنصرم، بحجة تضمنها مشاهد وإيحاءات جنسية، غير أن الرواية رغم ذلك صنفت كواحدة من أفضل مئة رواية في القرن العشرين، ونالت العديد من الجوائز، وترجمت إلى معظم لغات العالم، ومن رواياته التي اكتسبت شهرة ''عرس الزين'' التي تحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج المخرج الكويتي خالد الصديق الذي أخرج أول فيلم كويتي ''بس يابحر'' وللطيب كذلك روايات: ''مريود'' ''ضو البيت'' ''دومة ود حامد'' ''بندر شاه'' ''نخلة على الجدول'' ''حفنة تمر'' و''منسي''· موسم الهجرة ليس دوماً إلى الشمال، كما أردت يا صديقنا الغائب، الآيب، فقد استقريت اليوم أيها الطيب، وأيها الصالح في مثواك الأخير في مقابر البكري في أم درمان!