أريد أن أحدد أو أقرّب ما أرمي إليه، في القول إن شاعراً ما هو صاحب مناخ شعري· فالمناخ طقس مرتبط بالطبيعة، يقال: مناخ حار، مناخ بارد، مناخ صحراوي، مناخ معتدل··· إلخ· ونقل الكلمة من الطبيعة إلى الشعر، يعني الطقس النفسي والوجداني وربما العقلي والحياتي أيضاً، المتولد في سياق كتابة شعرية ما، وهذا السياق يترك بصمته في النفس، ولا يمر مجاناً، حتى ولو تناول نتفاً من مشاهد اعتيادية، لا هي بالصارخة ولا الدرامية ولا الصادمة، مثل ركوب قطار سفر، أو وصف محطة، أو زجاج نافذة··· إلخ· وهذه الأمثلة، والأمثلة التي ستلي، مأخذوة من مجموعة شعرية صدرت حديثاً للشاعرة اللبنانية صباح زوين بعنوان ''في محاولة مني'' (دار نلسن 2007)· في العنوان، نستشعر مناخ (أوقات مائتة): شوارع الشمال، مشاهد بيتية زاحلة، مطر، بيانو، رحيل، محطات·· إلخ· السرد يصلح ليوميات قصصية· أفعال قليلة تشي بالحركة: احتفلنا، رحنا نمشي في الشوارع الصغيرة، تساءلت، كنا ننحني·· وهذه الملاحظة -قلة الأفعال المستعملة- تصب في ما نسميه بلاستيكية المشهد· لكننا إذا كنا سنقف عند المفردات مفصولة عن جسد النص، فإننا سنقع في المغالطة، ذلك أن ما يلوح للقارئ على أنه سرد اعتيادي لحالات مرت بها الشاعرة، ومشاهد يتكرر بعضها، وبعضها يرافقها من النص الأول للنص الأخير، إنما هو أوشحة سريالية خفيفة ومؤلمة أحياناً· فالنص الأول يبدأ برائحة رحيل ومحطة ومشهد امرأتين متشابهتين تحدقان في الشاعرة وقد لمحتهما من خلال شباك القطار· المرأتان المتشابهتان ستعودان في آخر المجموعة، كما تترددان في بعض محطات النصوص، على غرار صورة سينمائية هتشكوكية معادة، والنصوص بكاملها هي نصوص رحيل وقطار ومحطات· يكفي، مع صباح زوين، تسجيل حركة القطار، ومراقبة الأشجار والمشاهد من خلال النافذة، والمحطات، لصنع قصيدة في الرحيل·· ''الوقت ليس لنا/ الأمكنة غائبة/ وتزيدني غيبوبة/ امرأتان على رصيف المحطة''· النصوص سردية مشهدية، المناخ: القطار والمحطات والمشاهد التي تنظر إليها امرأة في قطار·· إشارات خفيفة تنزع المعنى من التصوير إلى الغرابة السريالية ''فصلني عن الخارج زجاج الشباك/ فإشارة بيدي/ وهبط كل المعنى إلى أسفل''·· تتردد إشارات إلى أن المرأة وحيدة·· بل أقول، من خلال جملها هي، مائتة· تقول: ''دخلت الكنيسة الصغيرة لأموت قليلاً'' وتتكرر جملة ''الأوقات المائتة''، في أكثر من موقع·· وسياق النصوص المختصرة سياق تسجيل كلمات من سيرة حياة·· ''لم أعد أذكر الألوان كلها/·· في المساء كنت أغني على كتب وأوراق وبعض من ألمي''··· هكذا، تتجمع لدينا، وعلى امتداد ثمانين صفحة من النصوص المختزلة، عناصر مناخ شعري هو طقس الرحيل الدائم (قطار ومحطات ونافذة) وتسجيل ملاحظات امرأة وحيدة، ملاحظات سريالية ومؤلمة معاً، وراء قناع السرد الاعتيادي· الحياة عادية لكن الإحساس بها غير ذلك·