كان شيوع المذهب الواقعي تعبيرا عن متغيرات العالم القاسية التي انقلبت بالأحلام إلى كوابيس، وفي الوقت نفسه موازيا لازدهار الصناعة في العالم من ناحية، وصعود الطبقة الوسطى من أبناء المدن الكبرى من ناحية موازية· وكان القرن التاسع عشر في أوروبا هو عصر الواقعية التي سحبت البساط من تحت أقدام الرومانتيكية، وأهالت عليها غبار التحول والثورة على السواء· وكانت الواقعية هي التي أوقفت المبدع على قدميه، وأنزلته من ذروات الأعالي إلى سطح الأرض كي يشارك الآخرين مشكلاتهم، ويرصدها، متأملا المشكلات الناتجة عن الحروب وعن التصنيع، وعن الدراما البشرية الجديدة التي أخذت تشغل المبدع، خصوصا بعد ازدهار العلم مع ازدهار الصناعة· وكان القرن التاسع عشر هو قرن الاكتشافات الكبرى التي تركت آثارها العميقة على عوالم الإبداع ومجالاته، والاكتشاف الأول هو اكتشاف نظرية التطور على أيدي داروين الذي نزل بالإنسان من عليائه وجعله نتاجا متطورا من الحيوان الذي كان، بدوره، نتاجا متطورا من الأميبا· وكان الاكتشاف الثاني هو اكتشاف الصراع الطبقي المرتبط بعلاقات الإنتاج الصناعي وأدواته على السواء· وجاء الاكتشاف الثالث ليكشف عن قارة الأعماق الفردي المجهولة التي خاض فرويد في محيطها الذي أطلق عليه اسم اللاوعي الفردي، في موازاة يونج الذي اكتشف محيطات اللاوعي الجمعي· وجاء إلى جوارهما فريزر الذي اكتشف عالم الأساطير ودلالاته التي ترتبط باللاوعي الجمعي· وقد تركت هذه الاكتشافات آثارها العميقة على الإبداع الذي انجذبت عدساته إلى الأرض، وسكان المدن بوجه خاص، والعلاقات الاجتماعية بين طبقات المدن الصناعية بوجه أخص· وكان من نتيجة ذلك تغير التراتب الموروث في أنواع الإبداع، حيث أصبحت الرواية أعلى مراتب الأنواع الأدبية وأكثرها تعبيرا عن عوالم المدن الصاعدة المزدحمة المليئة بالمتناقضات، وشهد القرن التاسع عشر عظماء الفن الروائي وبنائيه الذين لم تتضاءل مكانتهم وآثارهم في مسار هذا الفن اللاحق، حسبنا أنه القرن الذى شهد إبداع بلزاك (1799 ـ 1850) وزولا (1840 ـ 1902) وتولستوي (1822 ـ 1910)·