تحدث عن الثقافة وكيف تحفظ ودها وسدها وصدها وجدها وكدها ونحن نعرف أن وعاء أي ثقافة هو اللغة المتينة الرزينة الرصينة، التي تحملها وتحتضنها وتضمها وتلمها وتلثمها شفة الحب والحنان والأمان والاطمئنان·· ولغتنا الجميلة صارت هزيلة، نحيلة، قليلة المحاسن، ضئيلة المحسنات، عمياء صماء بكماء، قاتمة، مظلمة، معتمة، مبهمة· عندما تجلس لتسمع صوت المذياع أو تشاهد التلفاز تصدمك وتكظمك وتهضمك لغة أهل الضاد، فلا تسمع غير نقيق الضفادع أو نعيق البوم أو تجديف أو تحريف أو تخريف أو تجريف لتربة اللغة وكسر أغصانها وهدم أركانها وتثليم أسنانها وتعتيم مفرداتها وتهويم جملها وتحطيم معناها ومغزاها ومرماها· لغتنا الجميلة باتت يتيمة، أليمة، هضيمة، يرتكب في حقها أعتى وأشرس أشكال الجريمة الأثيمة·· مذيعون يتحدثون اللغة وكأنهم نزلوا على الأرض عبر أطباق طائرة أو من على ظهور كائنات طائرة حتى صارت اللغة على ألسنتهم سلعة بائرة مخثرة، معثرة، مبعثرة، شعثاء غبراء، المنصوب فيها مجرور والمرفوع مكسور والمكسور مهدور والمجرور مغدور، وكل من فيها وعليها فانٍ مستهان به، هائن عند أهله· لغتنا الجميلة حزينة بفعل السياط التي تسومها يومياً أشد العذابات وأقسى المهانات؛ لأن الذين يريدون أن يغردوا ينعقون والذين يريدون أن ينشدوا ينقون والذين يريدون أن يتفلسفوا يطيحون بالثوابت ويهشمون العظام، ويميطون اللثام عن جهل وسذاجة واستهزاء واستهتار بالقاسم المشترك الذي يجمع أهل الثقافة الواحدة وأهل الحضارة الواحدة وأهل القيم الواحدة· هناك غنج وهمز ولمز واعوجاج وارتجاج والتواء وانحناء وانثناء في ممارسة اللغة كمحيط للتواصل وجمع الفواصل بين الناس أجمعين·· هناك محاولة لجعل لغتنا الأضعف والأسخف والأعجف والأرجف بين لغات العالم، هذه اللغة التي قدمت للبشرية أجمل وأكمل الصور الجمالية وأبهى المفردات بمحسناتها البديعية، صارت الآن شيئاً من الماضي وبعضاً من تاريخ يتلاشى ويتبارى وتغيب شمسه وتأفل نجومه وتغفل أقماره· لغتنا الجميلة يطعنها ظلام الجهل، ويخسف في جسدها من خسف واستخف وتطرف في العزف على أوتار التغريب والتجريب وتهريب الثوابت وإحالتها إلى سلال المهملات ومراحل ما قبل البدء وبعد النهايات القصوى، لغتنا الجميلة تحتاج الآن إلى حالة إنعاش ونقاش مع الروح ومع أطباء لغويين يستطيعون حقنها بإبر اليقظة والنهضة للحظة ما قبل الموت الطبيعي وما بعد الموت السريري·· لغتنا بحاجة إلى مؤتمر دولي لرعاية المشردين والمظلومين والمحرومين والمتقاعدين والميئوس من حالتهم الصحية·· لغتنا بحاجة إلى عصا موسى لا سحرة فرعون لكي تجفف عنها مياه التسرب اللغوي وحفظها من ما لوثها وروثها وعبث فيها ورفثها وغثها، لغتنا بحاجة إلى إسعاف وإنقاذ واستيقاظ واستنهاض وردع كل من يسوف ويكسف، وصده ومنعه وكبح جماحه؛ لأنه لا سبيل لأمة أن تعيش مصانة إلا بلغة تحميها من عبث العابثين ورجف الراجفين وغرف الغارفين ونزف النازفين وسهو الساهين ولهو اللاهين· لغتنا دمنا·· شريان حياتنا ووريد الدم الذي منه وفيه تنبض قلوبنا·· حافظوا عليها·