كلما سمعت هذه الأغنية الكاريكاتورية بالصدفة، ينتابني الضحك، فهي ساذجة، وسخيفة، ولكنها ربما كانت صادقة وعميقة في نعتها ''خيشه'' بالكذب، والكذب القوي، بعدما كذب على الجمهور البسيط المؤلف والملحن والمطرب، وباعوا لهم شريطاً بدأوه بالكذب، ولم ينتهوا منه· الكذب من آية المنافق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، ويقول ابن المقفع: إن الكذب رأس الذنوب، ويذهب الحكماء والعلماء الى القول بإمكانية أن يكون المسلم بخيلاً، أو جبانا، لكن أبداً لا يكون كذاباً، ويذهب آخرون إلى تقسيم الكذب إلى ثلاثة أنواع: الكذب البريء، وهو خاص بالطفولة، والأطفال، ومنه ما اخترعه الكاتب احسان عبد القدوس عندما أطلق تعبيره الجميل: أنا لا أكذب، ولكني أتجمل! وهناك كذب الخائف، وهو خاص بحرص المرؤوسين والموظفين على تجميل الأشياء بما يشتهي رؤساؤهم، أو مديروهم، والنوع الثالث من الكذب: هو كذب المتعمد، المبني على تلوث السريرة، واهتزاز الضمير، وضعف الثقة بالنفس والآخرين، وهو يتم على حساب الأخلاق، والقيم، والمصالح، ويؤذي الآخرين، ويهدد حقوق الأفراد، والمجتمع والأوطان· في السياسة حبل الكذب قصير، فهذا السياسي المنافق الكبير، الذي جاء مع دبابات الاحتلال يلعن الدكتاتورية ويكذب على الشعب فيسرق، وينهب المال العام، وينخر الفساد عقله وذمته المالية ونفسه الشرهة للثأر والانتقام وأكل المال السحت، هذا السياسي على مبدأ ''غوبلز'' يكذب، ثم يكذب ويكذب حتى يصدق كذبه، ويدعو الآخرين إلى التصديق، وهو أسوأ الكذابين، ومن فرط كذبه، يحيط نفسه بالكذابين، ويوظفهم ويسلمهم أعمالا مقنعة، فتدور عجلة الكذب دورتها العجيبة في المجتمع، وينتشر الكذب في جسم المجتمع، فلا تنفع معه مسكنات ولا مهدئات· أما الاطفال فهم يتساءلون عن الصدق، ويميلون بعفوية وبراءة نحو الحقيقة، ولكن هذه النزعة هشة، قد تتأثر سلباً بأول كذبة مع الأم أو الأب! وقد يجنح العقل في خياله إلى شيء من الكذب، وأسوأه الكذب على النفس، أو إيهام النفس بأسطورتها، فيتعب العقل وينهك الجسد، دون أن يكون الإنسان قادراً على التفوق والإبداع والنزوع للمغامرة· ويتفق الجميع على حق الأسير في الكذب على العدو بإعطائه معلومات مضللة، كما يتفق البعض على أن كذبة بريئة قد تنقذ أسرة من خراب، وشخصا من هلاك، وما الكذب في الإعلان التجاري إلا نوع من المبالغة، فهو يسعى لإقناعك بشراء سلعة، قد لا تكون ضرورية، بتصويرها ضرورة، وأخرى قد تكون ضرورية بأكثر من قيمتها الحقيقية· وفي الأدب قيل إن أعذب الشعر أكذبه، ووصفت دموع التماسيح، ودموع النساء، بأنها كاذبة، وأكذب منها دموع هيلاري كلينتون وهي تستجدي أصوات ولاية نيوهامبشير، وعندما فازت بكت من جديد، ولذلك انطبق عليها قول الشاعر: قميصك والدموع تجول فيـــــه وقلبك ليس بالقلب الكئيـــــب