كالنسيم يا سيدي، جئت بهدوء ورحلت بهدوء، فكم دقت عصاك الأرض، وأنت تهش بها الطريق، تتكئ عليها علّها تحميك من تعبك ومن أسئلتك الصامتة، لم تكن تلقيها على أحد، ولكن عينيك كانتا هما الكلمة وما يسطرون، وما تخفي الجهات من مبهم وغامض· اليوم ستسأل الأزقة عن رجل من ذلك الزمان، كان هنا، كان يشخب القلب، ويصخب الدرب ببعض تراتيل وأسماء الذين ذهبوا وغادروا المكان بلا رجعة· كالورقة الخضراء جئت يا سيدي، لم يشذبها زمان، ولم يكتب على صفحتها مكان سوى اسمك ولون وجهك المغضن والمسفوف بحرير الأسئلة الراعفة بالهم ،الغارفة من سقم، العازفة على وتر اللحم· كنت يا سيدي كبعض الأحلام، التي تمر على الذاكرة، ثم تمضي مع النهار، تذوب مع صفحاته البيضاء الناصعة· كنت كبعض الأمنيات التي لا تكتمل فصولها ولا يقبل القلب إلا أن يضعها عنواناً للواعج سرت وأسردت التفاصيل حين غط العالم في سكون الليل البهيم، وغاب القمر، يبحث عن دفء الله وسماواته العلا· كنت يا سيدي هنا في القرية التي تداعت بيوتها كما تتداعى الأيام على قلب أنهكته المثل العليا، والصبوات الخاسرة· هنا في القرية المتعبة من شديد الأنياب الكاسرة وبعض رحيل، مض وفض، ورض وخض، وتمكن حتى حلت النجوم نضيدها، وما صفدته الكواكب من أجلها من ملكوت· غبت يا سيدي، بعد حضور أشبه بالغياب، السكينة موطنك، والطمأنينة روحك الطاهرة· عدت يا سيدي لترابك، ونقائك، وصلبك وترائبك·· عدت مترجلاً أو سارجاً، عدت والجياد في معيريض لا تزال لاهثة، عابثة، في الكاف والنون، لا تعرف أن المنون شيء من فنون الموت بعد الحياة، شيء من انتظارنا للمجهول واللامعقول· عدت يا سيدي فقد جفت صحفك، ورفعت أقلامك، ونزت سماؤك، ناءت أرضك بسؤال لم يزل يختزل جل أعمارنا وأسمائنا وأمنياتنا ومنياتنا·· عدت لحبك ولهفك وأديمك الذي لن تنجو منه، يد مبسوطة أو مغلولة، ولن تسترق بعيداً عنه خاصرة هضيمة أو هضيبة، فهنا الناس سواء من تراب الأرض والى ترابها·· عدت يا سيدي بكل ما حمله كتفاك من أثقال وأحمال، أبيض من غير سوء صفي، احتفى بك هذا الزمان لأنك دخلت كما خرجت، لا بين يديك غير الحلم· عدت يا سيدي، والذين يعودون كثر، ولكن قلما يعود الإنسان وكفنه الأبيض كما قلبه، وجسده العاري كما تاريخه·· وكالنسيم رسمت وجهك على موجة تزف في كل يوم بوح الذين رحلوا وسكنوا المكان والزمان دون ضجيج أو عجيج، غادروا برحمة الصدور المبحوحة، بنشيج الأمل وبعض جمله التي لم تكتمل، غادروا ولم يبق من وجوههم غير سحنة التراب وبعض خراب المراحل في ثنايا ثوبنا الأبيض· غبت يا سيدي تتبعك الرحمة والمغفرة·