حين بارحت مكاني الأول، خلّفت ورائي كل أشيائي: دفتر ''الخربشات'' اللامتناهية، راديو ''الترانزيستور'' المهشم، رائحة شتلة الحبق التي مشطتها يد أمي قبل قليل، وطعم القبلة الأولى· أذكرها تماما تلك الصبيحة الملتهبة· في لحظة واحدة اختلط عبق القهوة الطازجة برائحة البارود المحترق· تلك الرائحة سترافقني في طيّ رحلة السنوات اللاحقة· لم أحمل معي شيئا في تلك الرحلة المتمادية إلاها: شجرة السرو· فوق كتفي حملتها، من قرية إلى أخرى، من مدينة محتضنة إلى أخرى طاردة، من محطة عمر إلى عمر بلا محطات· كانت أشجار السرو تقف على جانبي طريقي اليومي· عالية، شامخة، خضراء، كأنها سكنت هناك منذ بدء الكون· شهدت ولادات البشر وشاركت في جنازاتهم، وهي في وقفتها لا تذبل، ولا تمل، ولا تتعب، ولا يتعكر مزاجها· في أيام الربيع والصيف الرائقة، تبدو وكأنها ثلة من حرس التشريفات· يسعى المارة بين صفيها، إلى مقاصدهم: مدارسهم، ومتاجرهم وحقولهم· تؤدي لهم التحية، وترعى من عليائها تعبهم وراحتهم، أحلامهم والأشواق· في أيام الخريف والشتاء، تستبدل حنوّها بصلابة لا تلين· تصد عاتيات الرياح عن الغادين والعائدين· تحميهم من العصف والزمهرير، وتظللهم حين تداهمهم زخّات المطر من الجهات الأربع· لم يكتسب عبوري اليومي بين صفّي شجر السرو، سياقا رتيبا أو عاديا· كان دخولا في المكان، أكثر منه اجتيازا· أحسّها تحفّ بي، تحادثني، تخبرني كل ما حفظته من حكايات البشر· تترى حكاياتها، على وقع زقزقات مئات العصافير التي بنت أعشاشها، بين أغصانها الكثيفة· وحينما يخنق السواد آخر خيوط الضياء، كنت آنس عند أقدامها من وحشة الليل· أستبدل رعبي بطمأنينة غير معهودة، وتسري دماء الحياة في أغصان أشجار السرو، فتمتلك لغة البشر· كانت تتحدث باسهاب وطلاقة، وأسمعها بوضوح· حين يعتدل مزاج السماء تطلق ضحكات رائقات، أما عندما تكفهر الغيوم، فيتناهى إلى مسامعي أنين هو أقرب إلى النشيج منه إلى النحيب· أفقت ذات صبيحة ربيعية، لأجد شجيرة سرو تنتصب عند مدخل البيت· كان أبي قد أتم زرعها، وراح يحيط ساقها، بسور واطئ من الأحجار· كانت المرة الأولى التي أتعرف فيها على سروة أقصر من قامتي· أصبحت رعايتها من مهماتي اليومية، ومع كل دفقة ماء أرويها بها، كنت أقيس ارتفاعها بطول قامتي· في تلك الصبيحة الملتهبة، لم أحمل في رحلتي القسرية إلاها: شجرة السرو· حملتها معنى رحبا، ومكانا قصيا، وحكايات لا تنتهي· وفي محطات الأمكنة والأزمنة، ستصبح رفيقتي التي لا تفارقني· سأكتشف تحولاتها بهدوء·· سأختبر تشكّلها الجديد في صورة وملامح أنثى·· من نص طويل لن يكتمل أبدا· Adelk58@hotmail.com