ما تزال معرفتنا بشعر الشرق شحيحة، وما نقرأ مثلا من شعر ياباني وهندي وصيني لا يساوي قيمة الأدب المكتوب بتلك اللغات تراثا وحاضرا· في عمل الشاعر والمترجم محمد عضيمة وكاورو ـ ياماموتو ''أنطولوجيا الشعر الياباني الحديث'' نجد عددا من القصائد يتقدمها حوار مع خمس شاعرات وشعراء يابانيين يلاحظ أغلبهم أن شعراء اليابان المعاصرين لا يعرفون شيئا عن شعرنا العربي إلا باستثناءات نادرة، إذن فنحن متعادلان·· جهلنا بهم يعدل جهلهم بنا·· ولكن أين يقع شعر اليابان اليوم كما تريد أن تقول لنا المختارات والحوارات والمقدمة؟ هناك كما في الحداثة الشعرية العربية اهتمام وحماسة وتلقف للشعر الأوروبي ـ والغربي ـ المعاصر وتأثر بأساليبه وتقاليده النصية، وليس ذلك مخيفا في بلد تمتد جذوره الشعرية إلى عصور قديمة تمثلها أشعار التانكا الكلاسيكية والواكا المولودة في البلاط ثم الهايكاي المكثفة القصيرة التي تحولت اصطلاحيا إلى الهايكو الذي ينظمه شعراء اليابان الحديثون وشعراء عرب وعالميون أيضا مستعيدين تقاليده بسمات حداثية· يابان اليوم، كما يقول مقدم المختارات: ''نتاج مصالحات بارعة من جميع الأنواع والأشكال بين القديم والحديث سواء في الفن والسياسة وعلى الصعيد الاجتماعي'' ويمثل لذلك ببناء مصانع التقنيات الهائلة التي عرفت بها اليابان فوضع الحجر الأساس للمبنى يتم بمراسم يترأسها كاهن ينشد التعازيم والعبارات المطهرة للموقع كما في ديانة الشنتو القديمة· ليس غريبا أن يحيي الشعراء الحديثون تقاليد الهايكو ويطوروها، وإذ تأتي هزائم اليابان في الحرب تكون ثمة إشارة للتحول الشكلي في الشعر وأصبحت سنة 1945 لا سنة انتهاء الحرب فحسب، بل هي سنة الاكتشافات العديدة لليابانيين وسط الدمار الذي خلفته الحرب والاحتلال الأجنبي والجرحى والمفقودين واليتامى، وانتهاء التعصب والدكتاتورية والاستبداد، ومعرفة الشعراء بحركات الحداثة الأوروبية الدادائية والسوريالية والوجودية والرمزية خاصة، وسينعكس ذلك في القصائد المختارة التي تجاوزت ما قدمه جيل ما بعد الحرب ـ والتجييل حاضر في تاريخ الشعرية اليابانيية ـ وإن ظل الأسى من المصير الإنساني جزءا مهما من الرؤية الشعرية في القصائد·· كما ظلت المشكلات المشتركة بين شعر اليابان وشعر العالم كالإحساس بتماثل التجارب الشعرية والنصوص واحتذاء الشعرية الغربية، والمواءمة الممكنة بين التراث والحداثة، وقلة اهتمام الجمهور بالشعر، والافتقار إلى الأسماء والذرى الإبداعية· تتحدث شاعرة يابانية في قصيدة بعنوان ''عصفور'' عن مئات وآلاف من العصافير التي تطير في الذاكرة ولكن عصفورا واحدا يسكن الأحشاء: ''إنني أحشاء تحتضن عصفورا ساقطا/ وفي أعماقي جميع العصافير الساقطة''· أيمكن القول إن اليابانيين مسكونون بصور الرعب التي سجلتها مشاهد حروب بلدهم ومآسي احتلاله وتدميره بقنابل سيجربها الأميركان في هيروشيما وناكازاكي·· لتتسع الفجيعة كما تتسع رقعة اليابان في الذاكرة وتسقط العصافير ميتة في أحشاء البشر كلهم، كما تلاحقهم القنابل ذاتها؟