لكل داء دواء، ليس هذا بجديد، ولكن الدواء بالتي كانت هي الداء! أمر بحاجة إلى تفسير أو لنقل وقفة لابد منها مع النص وتأويلاته· يظن كثير من الناس - وبعض الظن إثم - أن الدواء بالتي كانت هي الداء مدعاة للإيغال في الأخذ بأسباب المرض!! فإن كنت مجالساً لمدخن وأردت - حسب رأي هؤلاء - أن تتجنب ما يعرف بالتدخين السلبي، لأنه يمثل 60 في المائة من الضرر، والأربعون للمدخن نفسه، فما عليك إلا المشاركة·· سيجارة، سيجارتان، بل ثلاث وربما ''حجر'' شيشة للمشاركة ليس إلا·· والنتيجة طبعا أوله دلع، وآخره ولع! وعندها ستصبح مدخناً رسمياً وليس فقط جليساً لأصدقاء مدخنين· وعلى نفس المنوال، فإذا شعرت بسخونة الرأس وارتفاع درجة حرارة الجسم، فاغمر رأسك وجسمك بين أكثر من لحاف وبطانية صوف ''لعلك'' تتصبب عرقاً فيخرج الشر المستطير من مسامات جسمك المستجير· أما الحل العربي القديم عند الحجامين وعند الأمهات والجدات فكان ولايزال يتمثل في اللجوء إلى ''الكمادات'' الباردة لطرد الحرارة أو الحد منها، وهو ما لم يلغه العلم الحديث أو يعارضه، بل أضاف إليه الدواء، ولكن في يومنا هذا، هناك من يعالج مرضاه بما يسمى ''التلبس'' أي لجوء بعض المشعوذين ممن يفترون على الدين والدنيا معاً إلى عملية ادخال الجن في الانس، لينظف له جسمه من المرض، ثم تطهير الجسم بالضرب الخفيف حيناً، والمبرح أحياناً ليخرج الجن حاملاً أوزار المرض، وينام المريض قرير العين من شدة المعاناة، فالمرض في هذه الحالة كان ساكناً في الإنس، والجن تولى طرده بفعل كفاءة ''المستطوع'' حتى لا نقول ''المطوع'' وخبرته في التلبس والتلبيس، وكلها أبلسه ومن فنون تلبيس أبليس· أما المتنبي عندما قال ''لكل داء دواء'' وضعها في سياق فلسفي وأخلاقي مختصر مفاده: لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها وهذا لا يحتاج شرحاً ولا تفسيراً، لأنه تقرير صارم وموقف حاد من قضية أخلاقية غير خلافية، بينما جاء المتصعلك: الحسن بن هاني المعروف بلقب ''أبو نواس'' ليطرح مفهوماً آخر يحتاج إلى إمعان في النظر، قبل تفسير الخبر، يقول أبو نواس: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء! الأمر الذي يحمل معه قضية خلافية، بين من يفسرون الأشياء بظاهر لفظها، وبين المعنى الدفين في المبنى، والحرف الكامن بوهجه في وعيه، ودلالاته في عمقه· اذا أردنا أن نداويها بالتي كانت الداء، علينا أن لا نهرب منها إلى الأمام! وهذا أول مدلول للمعنى الحقيقي من حكمة الشاعر، بل نعيش الحالة بكل تفاصيلها نبحث عن الأسباب وليساعدنا في ذلك طبيب مختص أو عليل مجرب، وهو ما يعرف بعلم التشخيص وشتان مابين التشخيص والتلبيس· وقد تكون المشكلة غير فردية، بل هي جماعية أو ما يعرف بـ''الأزمة'' وهذه بحاجة إلى تشكيل خلية تدير الأزمة، تحدد ملامحها، وأفضل السبل لتجاوزها، وتعمل بروح الفريق الواحد، وبقيادة واعية، وعناصر كفؤة، لا أن نتجاهل الأزمة، وننفي وجودها، لندعها تكبر، وتتدحرج كأنها كرة ثلج، ثم تفاجئنا فلا نعرف أين المفر ولا المستقر·