كان صوت الطالب المخاتل في الإذاعة المدرسية يخرج دون ارتباك، والذي استطاع أن يتخلص منه مبكراً، حينما ألقى أول كلمة له أمام حشد من الناس، وأفرح أبيه ذلك اليوم، دون أن يهتم الأب بما قال الابن عن ''حاجة الناس إلى الدين'' والذي ما زال يحتفظ بتلك الورقة التي مر عليها قرابة خمسة وثلاثين عاماً، وهي اليوم متعرقة، وأحبارها ذابت متحولة من اللون الأزرق إلى اللون النحاسي، يومها كان ثناء المدرسين والمدير كبيراً في نفس ذلك الطالب شبه النجيب· لذلك الأستاذ والمدير خليل خريسات ذات صيف قرر أن يرفع من علاماته في الحساب، ويجعله يواجه مصيره، ويراهن على التحدي عنده وفي نفس طالبه، كانت شهادة الصف الخامس فيها ''ناجح بتفوق'' ما عدا دائرة حمراء غير مكتملة في مادة الحساب، والتي ما زالت تتراءى له في أحلام الصيف كل عام، فأمهل إجازة الصيف كي يحسن من تلك العلامة، لكن الإجازة قضاها في العين، وفي المراكز الصيفية في مدرسة مالك بن أنس الجديدة والمقابلة والجارة العنيدة للمدرسة النهيانية في الكويتات، في ذلك المركز لعب الكيرم، واشترك في مسابقات ثقافية، وتعلم الحفر على الخشب، ودخل في التصفيات النهائية لكرة تنس الطاولة، ونسي الحساب· كانت علامته التي طوقها الأستاذ الفلسطيني الغاضب دائماً بلون أحمر 46 من مائة، لكنه حين أعاد الدور التكميلي هوت إلى 42 من مائة، لكن الأستاذ خليل خريسات جبر ذلك الرقم، وجبر بخاطر طالب شبه نجيب، وقال له: أنت والشهادة الابتدائية العامة، ولتكن حساباتك صحيحة، ولا تحتاج إلى جبر الكسر، ونجح بتفوق في الشهادة العامة لأنه كان يحمل فرحين، فرح النفس، وفرح المدير صاحب الفضل· الغريب في الإعدادية، ألغي الحساب وحلت مكانه الرياضيات، وأصبح مدرس الحساب القديم يدرس مادة التجارة ومسك الدفاتر، وكان فرحاً بنباهة طالبه الذي لم يعتده هكذا في الحساب، أما مدرس الرياضيات فقد كان مدرساً أردنياً طيباً، فرحاً، اسمه الأستاذ مفلح البطاينة الذي استطاع أن يجعل مادة الرياضيات في عيني الطالب المجبور أجمل من الحساب، وقدر أن يطوعه على فهم المعادلات، بحيث تجاوز الصفوف الإعدادية وشهادتها العامة دون عرج، أو دوائر حمراء يمكن ان تحرمه من اللعب الصيفي اللذيذ، وبداية السفر الجميل، غير ناسي الدعاء وذكر جميل مديره القديم الذي كان بمثابة الأب· اليوم·· يتذكر ذلك البرواز القديم لطلبة اصطفوا على عجل ليلتقطوا صورة جماعية بالأبيض والأسود في آخر أحد الأعوام الدراسية مع أساتذتهم ومديرهم خليل خريسات، والتي أضاف عليها ناصر، الطالب شبه النجيب، صورة أخرى بالألوان منذ أعوام حين سنحت الظروف وجمعتنا بلقاء مع مديرنا القديم، وبعض من بقي من طلبته النجباء، لكن اليوم يريد أن يضيف شريطاً بالأسود على برواز تلك الصورة الملونة والجديدة منذ أعوام، لأن الأستاذ والمعلم والمدير والمربي خليل خريسات قد ودعنا وداعه الأخير، ذاهباً باتجاه صوت جرس وحيد وأخير، جرس الموت·· فلك الرحمة وسكون النفس، ومنزلة الصديقين، ورياض الجنان