''الهوية هي ما نورِّث لا ما نرث، ما نخترع لا ما نتذكره، الهوية هي فساد المرآة التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة· لا أخجل من هويتي فهي ما زالت قيد التأليف''· قائل هذه الجمل الحكيمة هو محمود درويش في أحد نصوصه التي صاغها لتجري مجرى الحكمة· وقد أعجبتني الدلالات التي تنطوي عليها، لأنها تؤكد أن الهوية ليست كيانا ثابتا، لا يقبل التغير، لأنها لو كانت كذلك لكانت علامة الجمود والتحجر، فالهوية الثابتة الساكنة هي الهوية التي لا تتجدد، والتي لا تنفتح على الحياة المتجددة أبدا· وكل هوية حية هي هوية مفتوحة على التغير متقبلة له، نعم هي تقوم على عناصر ثابتة تمايزنا عن غيرنا، ولكن هذه العناصر الثابتة لا تمنع التغير، ولا تقاومه ولذلك فالهوية بوجه عام، والهوية الثقافية بوجه خاص، هي حضور حيوي في حالة صنع دائمة، ولذلك فهي ما نخترعه إلى جانب ما نرثه، أو هي ما نرثه لكن بعد أن نعيد إنتاجه، ونضيف إليه ما يزيده ثراء، وما يؤكد حضورنا في الوجود، ولذلك فهي ليست ما نرثه ونفخر به، كأنه البداية والنهاية، ولذلك فهي ليست ما نتذكره من الماضي، أو ما نباهي به، لأنه ليس لدينا ما نفخر به، فذلك علامة التخلف الذي يقيس كل فعل جديد على ما سبق القيام به بما يعوق حرية الحركة في صنع المستقبل· ولذلك فهناك نوعان من الهوية الثقافية، الأولى هي هوية التقليد لما سبق، والقياس عليه فإطارها المرجعي في الماضى دائما، وماضيها أجمل من حاضرها، ومستقبلها المأمول هو عود على بدء في مرحلة ذهبية متخيلة من الماضي· والثانية هي هوية الابتداع والابتكار التي تقوم على المساءلة الدائمة، وتنبني على التجريب والمغامرة، إطارها المرجعي هو القياس على المستقبل الواعد، وليس على الماضي الذاهب· هذا النوع الأخير من الهوية يتميز بتفاعله مع الزمن المتغير، ويجدد نفسه مع كل تغير، مدركا أن التغير هو التجدد الخلاّق، واكتشاف آفاق جديدة تقوم على عوالم أنضر وأجمل· والهوية الخلاقة هي الهوية التي لا تنغلق على نفسها، ولا تنكفئ على حضورها، تعكف عليه كما يعكف نرجس على صورته في الماء، وإنما تنفتح على غيرها، وتتطلع إلى كل ما يقع في محيط إدراكها·