يمكن القول بداية إن الكائن المنفي أو المغترب في برهتنا الراهنة ليس ذاك المقذوف خارج منطقة مكانية بعينها تسمى: وطن، وإنما ذاك الذي أضاع مكانه جذرياً في هذا العالم، وبدأ رحلة التيه الحقيقية· انطلاقاً من هذا الشعور الحدي لهذه اللحظة المحتدمة بالهواجس لكائن وجد نفسه خارج العالم، خارج لعبة الاجتماع والتاريخ التي تبعثرت، لحظة هذا الكشف الأليم، شظاياها وخيوطها المحبوكة جيداً، في صميم روحه وكيانه وحولته إلى كائن القلق والبحث والترحل· ثنائية الوطن/ المنفى المتداولة حد الاستهلاك، لم تعد تضيء شيئاً ذا قيمة في هذه الرحلة الليلية المحتشدة بالهوام والأسئلة· لم تعد تعني شيئاً إلا ربما للدارس النفسي والاجتماعي وفق مناهجه المحددة سلفاً· وحتى عبر هذا السياق انقلبت معايير المنفى والوطن وتصدعت حيث تبادلا الأدوار في عملية انقلاب ناعمة مخادعة، وفق الشروط السياسية والاجتماعية والتعبيرية في أكثر من بلد ومكان· وحيث أصبح الوطن هو ما دعي بالمنفى وكذلك العكس· عملية الانقلاب هذه تستدعي بالضرورة، إشكاليات متعددة ليس على صعيد الحياة اليومية والمدنية التي أصبح منفى كالمنفى الأوروبي يلبي احتياجاتها ومتطلباتها أكثر من الأوطان المنكوبة بكافة أنواع التسلط والحروب والانهيار·· إشكاليات الكائن المنفي الذي يتعاطى الكتابة والتأمل والتفكير، ذاك الذي ندعوه شاعراً ومثقفاً·· مثل كيفية اشتغال المخيلة، الذاكرة والحنين·· إلى أي مدى تبحر سفنه حيث لا نجم يٌهتدي به· بحر مضطرب وظلام عميق؟ هل مازالت الأمكنة الأولى، أمكنة الطفولة دوافع جذب وحنين؟ هل مازال ذلك النبع الذي تنهل منه مخيلة الكتابة، بؤرة الأماكن في تشظيها وتعددها، مرجع الذاكرة في رحلتها الشاقة بين المدن الغريبة والناس الغرباء· أم كفّت عن أن تكون كذلك وأحكم التيه والانخلاع قبضته الازلية؟ لنفترض أن هذا الكائن الباحث في غابة الكلمات عن موطئ قدم ليحط فيها رحال الشاهد والمتذكر، بدأ رحلة الانفصال عن المكان الولادي، مطلع السبعينيات من القرن المنصرم، أحس في البدء ما يحسه الآخرون من لوعة الفراق للوجوه والأماكن المألوفة لفترة· وبالاندماج في حياة البلاد الجديدة بدأ نازع الحنين والتذكر في الخفوت، لكن ليس الانطفاء حيث استمرت جمرة الذكرى في التوهج، وحتى حين أمعن مشهد الترحل في شتى الأصقاع والأماكن ظلت هذه الجمرة توصل الحياة السابقة لمرابع الطفولة بالحيوات اللاحقة وتلحم الزمن الأول بالأزمنة المتقادمة التي أخذت في التكاثف والمباغتة حتى أصبحت على ذلك النحو السريع الصاعق· يعود المترحل بعد طول بعاد ونأي، إلى تلك الأماكن التي حلم بالعودة إليها، ليجد أن الوقائع تشيد بنيانها بمعزل عن الأحلام ونوازع الحنين·· يعاود الرحيل والعودة مرة ومرات وبوتيرة سيزيفية، ليكتشف كل مرة ما لم يعد بحاجة إلى اكتشاف: خرائب الروح وخرائب طفولة الكائن والمكان· يقف ناعقا بهجاء قاس وانتباه أقسى إلى هذه الصيرورة الفاجعة المنذور لها بقدرية عمياء صارمة، حين لا مكان للتسوية ولا خيط شمس يتسلل من تلك البيوتات الطينية العتيقة، حيث كانت تقطن العائلة في الأزمنة التي بدت له نائية أيما نأي وسحيقة·