تبدأ سنة جبران فعلا بدخول عام جديد، يحتفل لبنان والعالم بذكرى مولد القائل: إن ما يقوله بلسان واحد سيردده الآتون بألسنة متعددة، فكانت نبوءته حقيقة، فاحتلت كتبه رفوف مكتبات المدن في الشرق والغرب· وإذا كان جبران قد بثَّ أوجاعه وأحلامه بالعربية والإنجليزية شعرا وحكمة وقصة، وجسّدها رسما وتصويرا، فإن لغات كثيرة عرفته عبر الترجمة وصار ابنا للعالم كله، ولا ضير أن نذكّر بتقصير عربي حيال تراث جبران الذي لم يلق ما يستحق أدبيا وإعلاميا في سنته التي توافق مرور مائة وخمس وعشرين سنة على ولادته في السادس عشر من كانون الثاني، جبران الذي قال عنه شبيه له هو أبو القاسم الشابي ''لقد كان جبران عاطفة مشبوبة، وخيالا جامحا، وفكرا قويا يجوب آفاق الحياة'' ملخصا بذلك أعمدة الشخصية الجبرانية: عاطفة وخيال وحياة، استمد منها ما أهّله ليقوم بمهمات عدة في حياته: الإبداع والفن والفكر والتأمل، هدم وتشييد لعالم جاء منه وأحبه لكنه رأى هوانَه وتهاونه وعبوديته، فأراد له أن ينتفض ويتجدد في حياته وأدبه· نظر جبران إلى الزمن وكأنه سلسلة من الذكريات، فما اليوم ـ كما يقول ـ إلا ذكرى الأمس، ولا الغد إلا حلم اليوم، فراح يقطع أيامه صوب المجهول بالغناء الذي كان له موقع مقدس في نفسه، فهو سر الوجود، وصارت الأغاني مقياسا للموجودات (فكم بومةٍ ـ يقول جبران ـ لا تعرف من الأغاني غير ما شابهَ نعيبها) وكأنه بذلك يريد أن نفتح آفاقنا وآذاننا على صوت الآخر، ولا نكون كالبومة التي لا تعرف غير صوتها وهي تنعب· والخلود الذي اقترحه جبران على البشر وجده في الكتابة التي حققت له حلمه، فكان صاحب ''النبي'' و''رمل وزَبَد'' و''المواكب'' و''الأرواح المتمردة'' و''الأجنحة المتكسرة'' و''المجنون'' و''دمعة وابتسامة'' و''عرائس المروج'' وسواها من روائع فكره وعاطفته، حاضرا لا يهرم أو يبلى، وهو في قلب مسيرة التحديث شعرا ونثرا، وأثره لا يخفى على دارس أو قارئ في ترقيق اللغة وتحديث الأشكال وتجديد الأفكار وتنويع الأساليب· وكثيرا ما رددنا القناعة بأن التحديث الحق والواعي يبدأ بجبران، وأن كتاباته وأشعاره وأفكاره وجهت للجسم الثقافي الخامل مطلع القرن الفائت صدمات حركت يابس عروقه وجامد مفاصله، وليس بخاف أثره في الشعر المنثور الممهد للتحديث الجذري اللاحق في القصيدة العربية· إنه جبران الأثيري الذي عاند الموت ووصف الجسم بأنه (رَحِم تسكنه الروح ) وحين تبلغ تفارقه، كما يفارق الجنين ظلمات رحم أمه·· فتبدأ حياته بهذا الفراق· الحياة لم تكن لديه إلا كما تخيلها شخوصه ورموزه الأثيرة مَعْبرا وحسب إلى خلود سيأتي·· هي كالنوم، والحلم وحده يبرر وجودنا فيها·