ليست كل حرية خلاقة، وليس كل قيد سجناً·· بعض الحريات المفروضة تكون ثوباً فضفاضاً، تضيع فيه التفاصيل، ويغيب المعنى·· ففي كثير من الأحيان يحتاج الإنسان إلى قيد، يجمع فيه الشتات، ويؤلف فوضاه في حاضنة المكان والزمان·· نحن نحتاج أحياناً إلى القيد ونتوق إليه كونه العادة التي سرت على الوجدان، ومنحت العقل محيطاً يتجه من خلاله صوب كونه الصغير واحتمالات نشوء إبداعاته·· الحرية قد تقض مضجع هذا المستقر، وهذا المستعر، وهذا المستمر، وهذا المختمر· نحن بحاجة إلى القيد كي لا نفقد بعض ملامح وجوهنا وتقاسيم الجبين، فليس دوماً تكون التجاعيد نتيجة لبؤس، وليس دوماً تكون الغضون بفعل السنين، هنا فسحة ما بين الحرية والقيد اسمها الولوج إلى الداخل، ونحن كم من الخسارات نجنيها عندما ندعي أننا كسبنا حرية الانفكاك من قيد ما، وكم من الموت المجاني نعلنه على الملأ ونحن نتجه صوب الانفلات والخلاص المزعوم· فعندما تسير في الشارع المفتوح على الخيال والآمال المفقودة، تخرج الروح من الجسد، وتعلن العصيان ونسيان ما قد كان وأنت هكذا تلوب كأنك المضروب الخرب، يدك بيضاء، والعصا لا تشق الماء، واليابس تحت القدمين رخو، هش لا يحتمل وقوفك برهة عند ناصية·· أنت هكذا تخوض فراغك بنفسك، والعالم من حولك يمنحك الابتسامة الباهتة والنفس اللاهية·· أنت وحدك هنا في الشارع تسأل لماذا ليست كل حرية مجزية، ومفيدة، فيجيبك الرأس الدائر المستدير، عليك أن تسأل لماذا أنت خلقت؟ ولماذا جئت الى الشارع؟ فتقف تأكلك الصدمة، وتصفعك الدهشة، بعد أن خدعتك المواقف الهشة، والمهرولون باتجاه الرعشة الأولى· أنت وحدك هنا، كنت صبياً صغيراً غضاً، تحلم وتمارس عادتك في التأمل وتقرأ المشهد اليومي بتأنٍ، وتتريث في استخدام المسطرة والقلم لتقيس الاتجاهات الأربعة التي قد تحتمل وجودك أو لا تحتمل· وأنت وحدك هنا تسأل أيهما أجمل، الحرية التي تُنتزع، أم تلك التي تقذف باتجاهك كأنها الجحيم ثم تعطيك الفراغ الوسيع، بكل ألوانه المدلهمة والغائمة والمعتمة والحاسمة في اتخاذ قرار نهاياتك القصوى؟· وأنت في الشارع تفهم أن القيد قد يمنحك قلادة ببريق الشمس، وضوء القمر، تجلسها على صدرك وأنت تشيع العالم ابتسامة الإنجاز والإعجاز· وأنت في الشارع تصادفك الأشياء الجميلة، فلا ترى فيها غير المرور العابر بلا دهشة·· وأنت في القيد ترى الأشياء أحلى وأجلى، وأغلى وأنبل، وأجمل وأكمل·