في طفولتي كنت أتوق إلى الحرية، كنت أحلم أن أكون طليقاً، وكانت النموذج والمثال تلك العصافير الملوحة بأجنحة النهار، وهي ترفرف في الفضاء تعانق خضرة الأغصان، والندى المتدفق على الأوراق قطرات تمنحها النشيد، وبيت القصيد· كنت أحلم ألا يكون لي أب أو أم، ولا جدران ولا أزقة ضيقة، ولا كلاب تتربص في الزوايا كأنها الوباء المخيف· وفي الطفولة شحنات تزدحم في الخاطر، وتدمي العمر، وتملأ وعاء الكلام زئبق الحراك اليومي·· ومرت الأيام، وجاز لي أن أكبر وتكبر معي تضاريس المكان وتتسع حدقة الطموح وتسافر إلى حيث يسكن الألق المحدق والمطبق وطوق الحلم عقيدة وحياة، وفي هذه الأثناء غاب الأب إلى حيث السكون الأبدي، وكبرت الأم واتسعت دائرة الدمعة في عينيها، وتجهم الفقدان صار حرقة، تخرج مع أنفاسها جمرات·· أنظر إلى وجهها فتكبر اللوعة في قلبي، أغيب عنها، فأحتاجها، أشعر أنني طفل كبير يحن إلى الدفء والكنف، أقترض شيئاً من البسالة وأحرض نفسي إلى الغياب الطويل، فتكسرني نافلات العمر وشعيرات بيض، نبتت في اللحية كخيوط الثلج، على مخمل الوجه المتقاعس عن الإشراقة، يئن الطفل في داخلي، يصحو بعد غفلة، يحملق في الفضاء، ينظر إلى العصافير التي كان يحبها فلا يسمع غير زقزقة تشي عن ندب في المكان الجدب· والآن أحاول أن أتحرر من حريتي، ومن رعونة طفولتي، أحاول أن أعيد صياغة مشاعري، وترتيب الذي كان في كثيب العمر، وأشد الرحال إليها، تلك المرأة التي وقفت عند الباب ذات يوم، وهي تصيح بصوت مشروخ، عد إلى البيت يا ولدي، فقد اختلط الظلام وأنا في زحام المرحلة، وأحلامها المؤجلة، كنت أقول: يا له من أسر لا يفك قيده·· دعيني أمر في الأزقة، بلا صوت يزجر، ولا وحشة تذعر، دعيني ألهو، وما كنت أعلم أن تلك الحرية المنقوصة كانت القلادة التي تسور العنق بخرز الحاجة الفطرية إلى الانتماء، وإلحاح النداء الداخلي على الإصرار على أن الطفولة عمر لا ينتهي وما يتغير هو كنه الحرية·· حرية طفولية فوضوية، وحرية ناضجة مقننة، تنتمي إلى تغير المذاق والذوق والشوق والتوق إلى عالم يكبر مع امتداد العمر، ويتغير بتغير ألوان الطيف فيه·· كبر الصغير، صار أقرب إلى الكهولة، وأشياء كثيرة كبرت في عينيه، تلك الأم العاشقة لرائحة الرجولة في جسده، المحدقة في وجهه لترى صورة الأب الذي كان وغاب، وهكذا تتوالى الصور ولكن الوجوه كما هي وحرية الطفولة تكبر أيضاً، ويستريح الصغير الذي كبر عند ناصية التأمل، فيرى حلمه القديم مجرد أكذوبة وما بقي غير واقع، لا يتسنى له التحليق من غصن إلى غصن إلا ضمن أسس ونظم وقوانين·· تضع للطفولة حداً ولحريتها سداً، فقد نمتعض لكنها هي الحياة ليست سيلاً جارفاً، ولا بحراً غارفاً·· بل هي مجموعة شمسية تمشي على الأرض·