في كتاب استعادي لحوارات أجرتها مجلة “العربي” وصدر مؤخرا (يناير 2011) يستوقفنا حوار للكاتب الراحل الطيب صالح، تصدى فيه لعدد من مشاغل الكتابة بوضوح وصراحة، تنقص الكثير مما نقرأ من حوارات متعالية يسودها استعراض الذات، والتعريض بالآخرين وتسفيه تجاربهم ومنجزاتهم، ومما أجاب عنه الطيب صالح صلته بالسينما التي تبدو مؤثرا مهما في تجربته الكتابية، لا سيما في روايته “عرس الزين”، وتمثله الدقيق للمشاهد البصرية والعادات والطبائع في قرى السودان وأطرافه القصية بقدر تمثله للحياة في الغرب وتعرجات الصلة بآخَرِه والمرأة تحديدا كنقطة تماس حرجة وكشف عن التباين الثقافي كما تجسده روايته الفريدة “موسم الهجرة إلى الشمال”. ويرى أن للعمل السينمائي المستمد من الرواية استقلالا وتميزا فنيا؛ لأنه يعكس قراءة المخرج، ولا يفترض وصاية عليه أو يجبره على تجسيد وجهة نظر الكاتب فلكل فن منطقه الخاص ولغته كما يقول، وعلاقة الكاتب بعمله تنتهي بإنجازه وعرضه للقراءة. وانسجاما مع تواضع الكاتب وبأسلوبه الساخر الذي تشظّى بين طيات أعماله يشخّص علاقة الكتابة النقدية بالكتابة الإبداعية والروائية تحديداً، فلا يتأفف ويمحو جهود النقاد والدارسين الذي كان لهم فضل التعريف بأعماله وعرضِها للقراءة ولا يبخسها حقها، بل يرى أن الرواية التي هي أحد أعظم الإنجازات في الحياة العربية المعاصرة تقوم بملء الفراغات الكثيرة في المخيلة العربية، أيا ما كانت طريقة كتابتها سردا تقليدياً أو تجريبا وتحديثا، وهي بحاجة للنقد الذي يقر الطيب صالح بأنه قد أنصف تجربته، رغم اعتقاده بأن النقد (الجيد) عمل إبداعي موازٍ للإبداع الروائي لا مجرد تابع له؛ فيجلو ـ عبر التطبيق خاصة ـ عن أبعاد لا تخطر ببال الكاتب. ولكن الطيب صالح يعلن رفضه لمقولة تسيّد فن ما على سواه، وهي تدعوه للحيرة؛ لأنها تعكس ما يسميه آلية التفكير العربي وبحثه عن مركزية تغلّب أمراً واحدا. وفي عودة لرأيه بالعلاقة بين النقد والإبداع الروائي نراه يقدم تشبيها غريبا لم أستطع قبوله؛ فهو يرى أن الكاتب يبدو غاطسا في حلم على حافة بركة صافية، فيروح يعكر ماءها بأصابعه باحثا في قاعها عن خفايا وأسرار، بينما يكتفي الناقد بالنظر بعاطفة (مثلّجة) إلى ما يحدث على سطح هذه البركة التي حفر الروائي أعماقها. وحتى لو استحال النص الروائي حفرا بتلك الطريقة فالنقد يحفر في طيات ذلك الحفر ويتلمس مرتين قاع البركة وقاع النص ليقدم رؤاه وينظم الملفوظ الروائي على أساس تراتب عناصره وطريقة عرضها لما أخرجته من القاع. ولئن قام الطيب صالح حقا بتلك المهمة الحفرية التي تعوز الكثير من نماذج الرواية المعاصرة فأبان قاع وهوامش بيئته التي تشرّب روحَها كما يقول، فإن القراءات أضاءت أعماله وقدمت أعماقها بما لم يخطر على بال كما صرّح.