بالغ المربّون في زرع هذه الأمثولة داخل رؤوس تلامذتهم: “أضئ شمعة بدلا من أن تلعن الظلام”. بدت أمثولة قائمة على المبالغة الإنشائية. فشمعة مضاءة هي مصدر واهن للنور، لا يبدد الظلام، لكنه يخفف حلكته. هنا تتخلص الأمثولة من مجرّداتها لكي تصبح درسا في الإنارة والضوء.
لم يتعلم محمد البوعزيزي أي درس كهربائي من هذا النوع. كان يعيش ليله حتى الثمالة. يعيشه في كل حالاته التي تفنن لسان العرب في تسميتها أو وصفها. عاشه في حالات الغسق، والعتمة، والجهمة، وتجرعه عندما ادلهم، واكفهر، وعسعس، وأصبحت كل ليلة فيه ليلاء. ولو كان البوعزيزي شاعرا، لاكتفى مع امرئ القيس بترداد بيته الذي لا يعترف بإضاءة شمعة:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
لكن سي محمد البوعزيزي، لم يكن شاعرا. لم تليّن هواءه الجاف رائحة الياسمين، كما تفعل في أنحاء أخرى من وطنه. كان يعيش في صحراء من الصبّار. تعلّم من هذه النبتة كثيرا، من اسمها، ومن قدرتها على التحمل، لكن ليله طال، وادلهم وعسعس. لم يجد شمعة. أضاء جسده.
منذ شهرين أصبح هذا الشاب المحترق الاسم اللامع الوحيد في حركة الشعب التونسي. ثار التونسيون بلا قادة، بلا زعماء، بلا أحزاب فعلية أو فاعلة. بلا آيديولوجيات. ثاروا من أجل وطنهم، من أجل أنفسهم. كان شعارهم الصادح بسيطا ولكنه صادق: يحيا الشعب.
تعودنا في مثل هذه الثورات، أو في حالات أقل منها، أن نسمع ذلك الشعار الذي يضمر في كلماته مجزرة، عندما تصدح به حناجر المنتفضين: بالروح.. بالدم.. نفديك يا زعيم. بمثل هذا الشعار، صنعت الشعوب ديكتاتورييها. مكّنتهم من رقابها. امتلأت بالحماسة، لكل تلويحة من الزعيم أو كلمة ينطق بها، فتضيع قبل أن تصل إلى الأسماع وسط ضجيج: بالروح.. بالدم..
التونسيون ضنينون بأرواحهم ودمائهم. ومن حسن طالعهم أنهم لم ينسخوا عن أسلافهم الفينيقيين، الذين عبروا المتوسط إليهم من ساحل صور إلى شواطئ قرطاج، إلا ما يستحق النقل. ثار التونسيون من أجل الحياة، ويتقاتل اللبنانيون في سبيل الموت. لم يرتهن الشعب التونسي للقادة والزعماء، بينما يتمترس اللبنانيون خلف قادتهم وزعمائهم. أضاء التونسيون ليلهم بالأمل، وأحرق اللبنانيون مدنهم بالنفايات والإطارات المشتعلة. هناك إرادة الحياة كما نطق بها شاعرهم أبو القاسم الشابي قبل عقود، وهنا الرغبة في الهلاك تتمظهر بلبوس فاقع وشعارات برّاقة.
كان محمود درويش يحثنا، وهو يجيب الأعداء، على حب الحياة مهما تكن شروطها مرّة: “..ونحن نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا”. مع ثورة الشعب التونسي، أدركنا أن سبيل الحياة ليس صعب المنال. تعلمنا من تونس أن زهرة الياسمين يمكن أن تكون بفاعلية الرصاصة. وأن رائحة “المشموم” أكثر نفاذا من رائحة البارود. وأن جسد سي محمد البوعزيزي المشتعل، ليس فداء للزعيم، لكنه شمعة يضعها في يد كل مواطن لينير بها الطريق.
أضاء التونسيون ليلهم، فهل نستنير به؟
عسلامة تونس.


adelk58@hotmail.com