عندما قرر أن يقف على قمة جبل، كان يدرك بأنه سوف يتنشق هواء عليلا، هواء يغسل الروح من شوائب كثيرة، يجعل القلب ينبض بشكل مختلف، فعلى السفوح العالية يعرف الصقر قيمة الفضاء الرحب، قيمة الريح والهواء الذي يهب في الأعالي متجاوزاً حدود القمم، يعرف الصقر معنى انفراد جناحيه في الفضاء المفتوح بعيداً عن أيدي الصقار وعن منصته، عن برقعه وعتمة الأسر.
على قمة الجبل انتعشت رئتاه بالهواء الجديد وسرحت عيناه في الأفق الممتد، جال البصر في سحر مجرى وهو يسقي ولا يتوقف، يسقي ويصر على أن ترتوي الأخاديد والشعب والعشب والشجرة والغزالة والوردة، يستقبل ما يأتي من الغيوم السارحة في امتداد السماء، الغيوم حاملة المزن، حاملة حاجة البشر وخير الأرض، الغيوم وهي تسير ببركة الريح ودوران الأرض، تحمل لكل أطراف الأرض وعمقها ووسطها وشرقها وشمالها وجنوبها وغربها فرحة للأطفال، فرحة تجعل حركتهم أخف من النسمة ووجوههم ناصعة بالبراءة وتطير الفراشات في مدى نظرهم وتداعب بألوانها البهجة في قلوبهم.
من الأعالي يحدق ويرى مالم يرى في زحمة البشر وحشرة الأجساد والصراخ الهائج بهدف ودون هدف، يرى الماشين والراكضين نحو مرادهم، منهم من ينتزع أشياءه بذل ومنهم من يصر على كرامته حتى آخر ثانية من عمره، منهم من يتزحلق ومنهم من يسقط على وجهه ولا يعد يقدر على الوقوف مجدداً.. يرى الوجوه وهي تتلون في الدقيقة مرات ومرات، يراها وهي تبتسم وهي تضحك وهي تشتم وهي تبكي وهي مكللة باسارير الفرح.
من قمته يستشعر تبدلات الهواء ويحدق في مساحات الأرض، البحار العميقة وهي تلفظ الحكايات والأساطير إلى الشواطئ، تدفع كل شقاء البشر عنها، جرءتهم وقتالهم، ودماءهم التي تركوها وغادروا يبحثون عن المزيد من الخراب والاحتلال والتشويه.
يرى الأنهار وهي تسقي الحضارات أملا وهي تكتب لهم تفاصيل جديدة في المحبة.. الأنهار وقود الغابات والبساتين، الأزهار والورود براوئحها وأشكالها وألوانها وهي تلاطف رغبات العشاق وتهيج النبضات الدافئة في القلب، كنسمات الهواء الباردة وهي تلمس الخد في الصباح النقي بمشهد أشعة الشمس المنسابة ما بين الغيوم.
من على قمة الجبل يسمع حروف الشاعر التي أبى الهواء أن يجعلها تتبعثر بين صخور الجبل او أن تدفن في حفر الموتى أو تغرق في المحيطات، يسمع كلماته التي تشفي القلوب، وتغير المعاني المكرسة للخديعة، كلماته تنشر قيماً تتسق وسوية الإنسان الكريمة والشريفة والعزيزة والنبيلة والمحبة والتواقة دائماً إلى الحرية.
وانه يرى العاشق وهو يتفانى في الحب، يقطف النجوم للحبيبة، يسرد الكلمات كلما حنت عيونها بنظرة وباح لسانها بشغف المودة، كلما ترددت في ترك أثر على معنى اليوم.. يكتب نبضاته حروفاً وينتشى بشعور الحب وهو يخالج كل تفاصيل روحة، يرى العاشق وهو يودع قلبه كل ليلة عند حارس بوابة العشاق كي لا تسرقه الأحلام.
من على قمة الجبل كان يدرك بأنه سوف يتنشق هواء عليلا، لكنه فقد تقنية النزول ثانية، فهذا الهواء الطلق، هذا البراح المفتوح للنظر والسماء العالية مدعاة للانغماس فيها حد الخدر، ففرد ساعديه وصدره مفتوحاً للريح وقفز.. وفيما كل الأشياء تتهاوى بفعل الجاذبية، هو فقد تقنية الجاذبية وحلق محدقاً في عيون الأرض.


saadjumah@hotmail.com