ثلاثة دروب تفتحت أمام الحكيم وهو يمشي باتجاه الحقيقة لكنه اختار أصعبها وأطولها وأشقاها. لم يكترث للأشواك والصخر المتناثر في الممرات حتى لو نزفت قدماه، ولم يلتفت لتحذير الجبان حين ناداه يصرخ: عد أدراجك. ذلك لأنه الحكيم يدرك أن الخوف ما هو إلا شقيق الموت، وأن كل خطوة صعبة يقطعها ستقوده إلى النور الذي يتجلى في النهايات الوعرة ولا يصل إليه إلا الراغبون في خلع صخرة اليأس من فوق الينابيع، لكي تتدفق المياه في المنعرجات وتروي الجفاف الذي تفاقم في النفوس المريضة. ثلاث كلمات كان يرددها الحكيم في ترنيمه الكوني: الأمل والمحبة ولا. وكانت هذه الكلمات زاده كلما اشتد عطش الوحشة في نفسه التواقة للبعيد. وفي كل كهف مظلم نام فيه كان يشعل النور من قلبه ويقرأ على الجدران ما كتبه الراحلون وما نقشوه بأظفارهم على صخرة الزمن لعل البشر في المستقبل يدركون سر الحياة وسر النور في قلوبهم. ولم يكن الأمل آنذاك كلمة، بل كان شكلاً دائرياً يشبه الشمس أو القمر، وسهما يطلقه الفرسان على عدوهم الوهمي الذي يسكن داخلهم ويعيق مسيرهم نحو التحرر من قيود الفكرة. وكانت كلمة (لا) مرسومة في أشكال شتى لبشر مذبوحين ومقطوعة ألسنتهم ومعلقين ومشنوقين ومصلوبين ولكن تشع من أفواههم وعيونهم كلمة (المحبة). وهؤلاء بالنسبة للحكيم كانوا رسائل الدم التي تظل تنبض باسم معناها كلما تقادم عمر الحياة، وكلما اشتدت العتمة في ليل الرحيل إلى المستحيل. ثلاثة جدران لو نعبرها نصل إلى مرايانا الأولى، ونرى أنفسنا بوضوح: اليأس والتردد والخوف من قول (لا). مرة عندما تنغلق الدروب في وجوه الحائرين فيصاب أكثرهم بالشلل الروحي ونصفهم يصاب بالعمى فيسقطون جميعا في الأنهار الجافة وتبتلعهم حفر الروتين. ومرة عندما تنقسم نفوسهم إلى نفوس كثيرة ولا يعرف أكثرهم إلى أين ينتمي ولا يعرف نصفهم إلى أين عليه أن يمضي فتبتلعهم دوامة الانتظار وقد يختفون في المتاهة التي اسمها السراب. أما البقية فيظلون يرددون جميعا كلمة (نعم) منحنية رؤوسهم وقلوبهم. فيما غيرهم يتلذذ ممجداً في زعيق الاتباع، مرتفعا على أكتافهم الممهورة بالنياشين المزيفة، وقد يقول الدهر إن الغلبة للاقوى، ولكن الحكيم يقول إن المذلة هي ندم الضعفاء. ثلاثة أبواب سيظل يطرقها الحكيم، أولها باب الحقيقة في منتهاها الأخير، حيث الداخل منه لا يعود، والواقفون أمامه تبح أصواتهم بالسؤال وتصدأ مفاتيحهم، وقد تذبل زهرة أعمارهم في التوق إلى رؤية مشهد الخلود ولكن بلا جدوى. والثاني هو باب الرجوع إلى البداية كيف صرنا؟ وكيف سحبتنا الشباك الغريبة من بحرنا الأول في النور إلى بحر الحياة المتلاطم. والباب الثالث هو باب المتاهة الذي كلما فتحناه وجدنا غيره مغلقا أمامنا في لعبة دائرية لا تنتهي. ثلاث زهرات حملتها يوم اللقاء قلبي ودمي وأغنيتي وها أنا أنتظر أن تدخلي. عادل خزام | akhozam@yahoo.com