في الميثولوجيا الإغريقية كان نرسيس طفلاً جميلاً جداً، فأمه كانت إحدى الحوريات، وأبوه كان النهر، ويتنبأ له العراف بأنه سيعيش طويلاً بشرط ألا يعرف (يرى) نفسه، وذات يوم يغريه أحد أعدائه بأن يتوقف عند بحيرة ليشرب فيرى نرسيس وجهه منعكساً على سطح البحيرة فيذوي ويموت ويتحول إلى زهرة النرجس التي أصبحت منذ ذلك الوقت رمزاً للحب غير الصادق، من هنا جاءت كلمة (النرجسية) أي الحب المرضي للذات، ومنذ حكيت هذه الأسطورة والناس تتناقلها للتدليل على أن حب النفس دليل على الأنانية، وهكذا في كل سنوات عمرنا ظل حب الذات مرادفاً للأنانية إلى أن جاء علماء أجلاء فقلبوا الطاولة في وجوه من قال بذلك مؤكدين أن حب الذات - بمعنى معرفتها وليس عشقها - يقود الإنسان إلى الشعور بالتقدير تجاه نفسه وقدراته وبالتالي يعيش متصالحاً مع نفسه ومع الآخرين.
الذي يحب نفسه ليس شرطاً أن يكون أنانياً، لأن الذي لا يحب نفسه لا يمكنه أن يحب أحداً آخر على اعتبار أن فاقد الشيء لا يعطيه، ولأننا إذا أحببنا أنفسنا نمونا بشكل سليم ونظرنا للحياة بشكل صحيح وتعاملنا مع كل التفاصيل بمحبة ورضا بعيداً عن النقمة والغضب، وليس شرطاً أن نحظى بمقاييس مثالية وعالمية للجمال كي نحب أنفسنا فالنفس ليست مجرد جسد، إنها تكوين عظيم، خلقه الله وزاده شرفاً حين نفخ فيه من روحه، ففي كل واحد منا شيء من روح الله العظيمة وهذا يكفي لنحب أنفسنا، ونتباهى بكل ما تفضل به الخالق علينا.
الذين يكرهون أنفسهم هم كثيرون، يتحركون حولنا فيعرقلون حركة الحياة، وينظرون بحسد أو بغضب أو بعدم تقدير وامتنان لكل ما ومن حولهم، فحين تكره نفسك تكره كل ما حولك، فلاشيء في نظرك جميل، ولا شيء يستحق التقدير أو الشكر أو التباهي أو الفرح، إن لهؤلاء الناس قدرة عجيبة على تتفيه الأمور وتقزيم المنجزات والاستهزاء بالآخرين، إن لهؤلاء الناس قدرة غير محدودة لجعلك تطفش من البلد إذا صادف وجمعك بهم مكان واحد !!
الذين يجعلون أنفسهم سخرية للآخرين يكرهون أنفسهم، الذين لا يقدرون مواهبهم وذكاءهم ويبيعون إبداعهم للآخرين مقابل المال يحبون المال أكثر من أنفسهم، الذين يقارنون أنفسهم بالآخرين ويعتقدون بأن الآخرين أفضل منهم لا يحبون أنفسهم، الذين يستسلمون للهزيمة ولقرارات الآخرين باستبعادهم لا يحبون أنفسهم، والذين يتخلون عن أحلامهم ويتحولون إلى قفازات بيد الآخرين لا يحبون أنفسهم، لأنهم يتخلون عن احترامهم لذواتهم وعن تقييمهم العالي لأنفسهم فيتضاءلون في نظر أنفسهم مع أنهم يمتلكون الكثير مقارنة بالآخرين، لكن ذلك لا يكفي لتمشي مطمئناً واثقاً من نفسك.
إن تقدير الذات وحب النفس قوة كبيرة وطاقة لا متناهية تمنح الإنسان قدرات خارقة على اجتراح أفعال تشبه المستحيلات أحياناً، ويكفي أن نسير في الحياة ونتحرك بين الناس يملؤنا شعور حقيقي بأننا أناس مرغوبون ومحبوبون ولدينا شخصيات حلوة يحبها أصدقاؤنا وزملاؤنا، وأنهم يتقربون إلينا للاستمتاع بصحبتنا لا لشيء آخر، إن إجابتك دعوة صديقك للعشاء أو لفنجان قهوة لا تعبر عن تقديرك لذاتك إذا فسرتها بأنه دعاك لأنه لم يجد غيرك يدعوه أو لأنه يشعر بالسأم ويريدك أن تسليه، حب النفس لا يعني الانتفاخ وعدم تقديرها لا يعني التواضع أبداً !!


ayya-222@hotmail.com