في الشارع كائنات خرافية تتحدى المعقول وتجاهر باللامعقول، بدوي يهز الأرض هزاً، وعندما تبحلق في السماء ترى ما يشبه الحلم رجلاً يطل عليك من نافذة مفتوحة يتصبب عرقاً ومن عينيه يتطاير الشرر، لا تدري علام يدل هذا الاكفهرار وهذا الانصهار وهذا الاضطرار لكل هذه التقطيبة المزمجرة عند الجبين، لا تدري عن كل هذا الاضطراب الذي ينشب أظفاره في جسد هذا الكائن البشري.. وأنت تسير في الشارع تتلفت يمنة ويسرة مرتعد الفرائص وكل ما تخشاه هو هذه العجلات الضخمة أن تتمرد على الشارع وعلى إرادة صاحبها فتميل عليك ميلة واحدة ثم لا تدري ماذا سيكون عليه أمرك.
سيارة صغيرة ومن مسافة بعيدة وهي تسير بالسرعة الفائقة تراها بحجم الكف.. بحجم الفراغ الذي لا يعني شيئاً وبحجم العقل الذي يقود هذه الكتلة الحديدية المبهرة، المزعجة، اللافتة للنظر، وعندما تقترب منك تفكر أن تتزحزح أو أن تطير في الهواء الطلق كي لا تعكر مزاج من أراد أن لا يسير على الأرض هوناً، وألا يخاطب الشارع بسلام وأمان.. لكن المباغتة تأتيك من كائن فكر أن يمتلك الشارع وأن يسطو على مشاعر الناس وأن يختطف فرحة الناس بهذه الشوارع الفسيحة النظيفة، فإذا به يشعل أضواء سيارته نهاراً ويجعلها تتحرك كلمعان البرق مصحوباً برعد يزلزل كيان الأرض.. تقول في نفسك ربما تكون هذه جزءاً من الفوضى الخلاقة.
بعض الألسن عسل وبعضها تصيبك بالملل وبعضها مغسولة بماء الزلل.. فأشخاص في عيونهم بريق الإحساس بعذوبة الحياة وعلى وجوههم إشراقة أمل لا تنطفئ وألسنتهم تتقطر ماء فراتاً يحيي العظام وهي رميم، وأشخاص يحدثونك وكأنك تستمع إلى شريط أغنية منقطع تتقطع معه، يناط القلب مللاً وسأماً فلا هم سعداء ولا هم تعساء، هؤلاء يقطنون في المنطقة الرمادية من العالم فلا لون لهم ولا رائحة ولا طعم.
وأشخاص وهؤلاء هم النكبة بكل معانيها.. لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب ودائماً على عتب وفي حال الغضب تؤمهم مشاعر السخط لكل الناس.. بل إنهم يمارسون البغض ضد الناس كما تمارس الخنفساء، تسلق الجدران الملساء.. يعذبون ويتعذبون.
الأحلام الجميلة لا تتجلى إلا في الصدور المنشرحة والقلوب المفتوحة على العالم والعيون التي لا تستغرق النظر إلا بكل شيء جميل ونبيل.. وما الكوابيس المفزعة إلا وليدة ضغائن ومحن سكنت واستوطنت وعششت وعشقت المكوث في الأعماق الغائرة فلا فكاك ولا انعتاق ما يجعل حياة هؤلاء الأشخاص في حال التقهقر والانسحاب من عالم الناس لأنهم لا يهنأون إلا تحت سطوة انعزالهم وخروجهم عن النص الاجتماعي.. هؤلاء لا يحلمون وإنما يستخرجون ويستعيدون شريط أحداث مأساوية جزء منها واقعي والآخر من صنع خيال مريض.


marafea@emi.ae