قال لي ولدي: “بدائية أنت يا أمي تعشقين الطبيعة والأشجار والخشب! فكم تمنيت أن ابني لي بيتا من الخشب كما كان الإنسان يبني بيت الطمأنينة والأمان من حنوسخاء الخشب، قبل حضارة الحديد وسطوة الطابوق والإسمنت التي تسورنا كالحصار وتفاجئنا كالفجيعة”. الخشب، أينما يكون الخشب.. جذعاً متوجاً بالأغصان، ناهضاً يستقبل البروق والرياح وطلاسم الفصول، أو فروعاً تتمايل في الهبوب الرخي تغري الطير بالأعشاش والغناء. أو قطعاً متناثرة في ضجة البناء، أو شاهقاً متعامداً يسند قامات الحجر، أو منجرفاً في عنفوان السيول، أو طافياً تائهاً يتأرجح في اندفاعات الأمواج، أو لائذاً غريباً مرتطماً بالشواطئ وعائداً إلى الضياع.. أينما يكون الخشب.. يغريني بالخلق! ??? لرائحته يتطاير رذاذا وشظايا تحت قسوة المنشار في المناجر، اختمار الغابات وعبق المياه الخفي.. لصمته الاحتمالات كلها. ??? يا لطاعة الخشب واستسلامه، كأنما في طبعه الصلصال حين يخرج من سديمه ليكوّن الأشياء الحميمة والأليفة.. وحين يتأوه متشظياً تحت أزميل النحات ليخرج عارياً من سذاجته، يماهي الكائنات في البهاء والجمال. لهدوئه صقيل لا مباليا بمن يشتريه ويبيعه في متاجر البناء، إغراء الوعود بالسرير والكرسي والمكتبة والباب والسياج والنافذة. لملمسه حنو البيت.. لملمحه بهجة الجمر ودفء اللهب.. لسرهِ غموض النار، واشتعال الحنين.. الخشب حبل سري بين الموت والحياة، بين البدائية والحضارة، بين الغرق والنجاة. الخشب المهد، والخشب التابوت. وبين المهد والتابوت، ثمة أسرّة للحب ودنان للمسرات! ??? - من أين نأخذ الخشب يا أمي؟.. - من هذه البذرة! - لا تسخري مني.. فكيف نأخذ الخشب الكبير من هذه البذرة الصغيرة؟ - من أين إذن يا صغيري؟ - قال لنا المعلم إننا نأخذ الخشب من الشجر - ألم يقل لكم المعلم من أين يأتي الشجر؟! ??? الخشب الأكواخ والخشب العروش، وبين الكوخ والعروش ثمة الإنسان في العراء والأعواد للمشانق والأسيجة للحصار! الخشب السياط والخشب الصعود. وبين السوط والصعود، تنتصب السلالم للرقي، والهاويات للسقوط! - ما كنا سنفعل يا أمي لو لم نكتشف الخشب؟ - كنا مازلنا نسكن الكهوف يا صغيري. ولم نكن لنعرف كيف نحيي النار بعد موتها، وكيف نبحر للبعيد ونعشق اللؤلؤ والمحيط والمرافئ والسفن.. وكنا سنزحف على أربع قبل الأفول، لو لم تشد قاماتنا المنحنية يد الخشب! الخشب الأمومة حين يكون الحب.. والخشب الأبوة حين يكون الرفض. الخشب السقوف والخشب الورق. وبين السقف والورق، ثمة الكلام حارق كسطوة اللهب.. وثمة الكلام من.. زبد! وأين ما تلتفت يا صغيري ستجد السؤال والجواب في فتنة الغموض وأسرار الخشب ! hamdahkhamis@yahoo.com